جردة الحساب بعد ثلاث سنوات من حكم غزواني: ما هي الظروف التي اجتمعت لغزواني وحده ليقوم خلال 3 سنوات بكل شيء

أربعاء, 2022-08-03 15:36

سلسلة مقالات يكتبها محمد محمود ولد بكار..
الحلقة الثالثة -

لا أريد أن يكون هذا المقال صورة جامدة لأرقام يتم تناولها في الصحف كإنجازات لغزواني، لكنني أريده نقاشا لمضامين عمل إنساني، وعمل فريق واسع، وتجربة بين الصح والخطأ، تراقب نشاط وتفاعل هذا الشعب وقواه الوطنية الحية في نظام الدولة.
لا أصدق أن رئيسا أخذ كل ما يلزم من إجراءات لإنقاذ طفل، ومع ذلك يعزف ليلة كاملة عن النوم حتى صبيحة اليوم الموالي إلى أن تتم عملية إنقاذه، يمكنه أن ينام عن حياة شعب بأكمله، كان ذلك استنتاجا طبيعيا لا غير .
يعتبر غزواني واحدا من ثلاثة رؤساء تخلصوا من عقدة الفردانية ليعملوا بروح الفريق، وهم المرحوم المختار ولد داداه، رغم طغيان روح الزعامة لديه فقد كان يعمل مع نخبة أقل تكوينا من الناحية العلمية لكنها أقوى شخصية وأكثر وطنية وأقرب للتنظيم ولمفهوم الدولة، إلا أن اندماج المختار في الرهانات الخارجية (تصفية الإستعمار ،عدم الإنحياز …) أثر على مسار التأسيس .
والمرحوم سيدي ولد الشيح عبد الله الذي اختار نفس النهج رغم اشتراطات الحملة ووظف كثيرا من الكفاءات في مناصب التصور، في مزيج بين الأجيال من أجل خلق فريق للعمل الوطني ولتسيير الدولة انطلاقا من الواقعية المجردة، الأمر الذي أثر مبكرا على مساره، وغزواني الذي كان الوحيد من بين العسكريين الذي اختار نفس التوجه ومنح الوزير الأول تفويضا تاما، رغم اكراهات الحملة والشريك الجاثم وظلالهما الثقيلة. لقد فاختياره لوزيره الأول، في الوهلة الأولى، بمواصفات وطموح الساحة السياسية، أثبت شخصيته المستقلة. كما عين حكومة تتضمن كفاءات وأصحاب شهادات عالية بعضهم تم أخذه مباشرة من "الشارع" تثمينا للتعلم وتعبيرا عن الرغبة في إشراك جميع مكونات وعينات الشعب. لقد كانت الكفاءة من ضمن مميزاتها، وكان معيار الشهادات حاضرا في تلك الحكومة التي منحها غزواني كامل الصلاحيات حتى أصبح الرأي العام يتهمه بالغياب التام عن القرار رغم أنه ظل في الصورة وراء التزامه وبدعم حكومته بمزيد من الصلاحيات، كما منحها وقتا لإثبات قدراتها، لكن الانسجام قام حول فشلها للأسف في وقت مبكر بسبب غياب الفاعلية. كان اختيار الحكومة الثانية والثالثة التي تم جلب كفاءات كبيرة وجديدة لها تنم عن تفاعل مع مطالب الساحة بتغييرات جوهرية في التشكيلة رغم أن غزواني من النوع الذي لا يحب الوقوع تحت الضغط، خطأ كان ذلك أم صوابا، فلكل شخص طبعه الذي هو جزء من شخصيته.
كانت التعيينات في المناصب تنتهج نفس النهج من البحث عن الكفاءات الوطنية ومن تلبية لطموح النظام، إلا أنها لم تكن تدور بصفة مطلقة في حلقة الموالاة وحدها، فقد تم استدعاء شخصيات مستقلة من الخارج بحثا عن الكفاءة وتم منحها الثقة والصلاحيات العريضة، لكن غزواني والرأي العام ظلا مشدوهين أمام حجم الفشل وحجم الفساد الذي يستبطن هذه الكفاءات حتى صار انعدام الثقة هو النسق العام الذي يميز أصحاب الشهادات. والغريب أن النساء كنّ جزءا من نسق الفشل هذا بل والفساد المالي والإداري وهذا تحوّل خطير في المجتمع .
كانت التجربة التي تحققت بواسطة تعيين أصناف من الأطر الذين يملكون تجارب متنوعة من خلال العمل في المنظمات الدولية ومن خلال تقلد وظائف محلية عديدة ولهم شهادات متنوعة، مريعة، وكانت تعطي الانطباع بأن الشهادات ليست كل شيء. لقد كان ذلك مثبطا حقا، وكانت المعجزة التي يحتاجها غزواني هي كيف يميز بعد هذه التجربة بين الكفاءات الصالحة والأخرى الفاسدة قبل أن يختبرها، وكيف يختبرها قبل تعيينها. إن الأمر الوحيد المؤكد أن هذه التعيينات لا تظهر محسوبية ويمكن قراءتها بعيدا عن الجهوية مما يدل على أنها في شكل اقتراحات عبر مشاورات واسعة داخل "النظام" وخارجه، عبر الباب المفتوح، وأنها لا تعبر فقط عن الوقوع في قبضة رهان الحملة السياسية. وهكذا يجدر بنا -ضمن جردة الحساب هذه- محاكمة المجتمع لأن المرض الذي يعتري النخبة ذو تأثير موصول بالمجتمع وبعقلياته، ففي 1960 جاء صحفي أمريكي من واشنطن بوست مع زعيم الطائفة الإسماعيلية لحضور استقلال البلد، وقد شاهد أن الدولة وليدة بكل معنى الكلمة، وأن أهلها لا يعملون،"فقال لأحد القادة العسكريين الفرنسيين المشرفين على حفل الاستقلال مستهجنا: "كيف تمنحون الاستقلال لشعب لا يعمل"، فقال له الفرنسي: "نحن الذين تعبنا منهم" …كان هذا هو الانطباع عنا عند النشأة، فما هو الانطباع عنا اليوم بعد ستين سنة؟ هل خلقنا صورة مغايرة؟. إن الصور والمشاهد التي خلقناها نحن ليست امتدادا طبيعيا للصور والمشاهد التي يحتفظ بها الأرشيف للعاصمة نواكشوط في السبعينيات والثمانينيات من ناحية التنظيم والمظاهر الحضرية، ولا لعقليات ووطنية الرعيل الأول، رغم ما قلناه عن تلك الحقبة …إن كل شيء اليوم يحدثنا عن الضحالة والتعلق التام ببغض بذل الجهد والتمتع بخيارات السهولة عن عقلية حرب العصابات "اضرب واهرب"، خذ ما يمكنك أخذه من الدولة والباقي على الله والقبيلة والأهل ….إننا نواجه تصحرا مزدوجا يأخذ ثلثين من تفكيرنا ومن أرضنا فكل ثلاثة أرباع من عقل أغلب الموريتانيين اليوم موجهة مع أحلامه وطموحاته لجمع المال وليس المشاركة في بناء دولة وطنية تسع الجميع، فعندما يلتقي شاب وشابة ويقرران الزواج إنما يقرران تسعير حرب أساسها المال وليس بناء أسرة، وعندما يتم توظيف خريج إنما يريد في اليوم الموالي أن يصبح مديرا أو وزيرا لكي يملك ما يتعين عليه الحصول عليه بعد 20 أو 30 سنة من التوّظف، لا أعني الخدمة. إن أهم عوامل النجاح في مجتمعنا هي الاعتباطية والتفاهة وباقي أمراض الديمقراطية الشكلية التي لم تنبن على أسس الوعي. 
إننا نشاهد غيابا حقيقيا لدور طور التأسيس ولدور الدولة التأطيري والثقافي والفكري، ثم إن الأجيال الصاعدة لم تتخرج للأسف وفق تخطيط الدولة من مدارس الأخلاق والوطنية، بل تخرجت من مدارس فساد المجتمع من الذاتية واللاوطنية واللاأخلاقية، ومع ذلك يتعلقون بالإصلاح الذي لا يؤيده المجتمع ولا التعليم ولا الدولة. إنها مطالب غير مؤسسة فكريا ولا علميا ، لكنه من نافلة القول تماما مثلما نقول اللغة الخشبية .
يحاول غزواني الوصول إلى عمق معاناة الشعب، ليست المعاناة التي توجد في المؤسسات وفي النظام العام، بل تلك التي "تلعب" على وجوههم وتميزهم عن الآخرين من خلال صعوبة الوصول للقوت اليومي. لقد كان المجهود الاجتماعي، هو المقاربة السريعة الناجعة للتعاطي مع رهان الحياة بالنسبة ل 30%تقريبا من المجتمع. لقد تبنى غزواني هذه المقاربة مبكرا وشكلت التوجه الأساسي للإنفاق الحكومي، وذلك لأن مستوى الهشاشة ازداد خطورته مع كوفيد، وهكذا استفاد ما يربو على 613 ألف أسرة على الدعم الغذائي والنقدي المباشر بغلاف يصل إلى 28 مليار أوقية قديمة وقد كان فعلُ ذلك المبلغ حاسما في بقائهم على قيد الحياة، فرواتب تقدر ب 22000 أوقية لأسرة ضعيفة متعففة يحمل فرصة كبيرة لعدم الموت جوعا. فقد حصلت 100 ألف أسرة على التأمين الصحي مقابل 2مليار و100 مليون أوقية قديمة سنويا ،كما تكون تآزر 1750 دكانا من دكاكين برنامج التموين الذي يغطي يغطي جميع الولايات تسيرها مفوضية الأمن الغذائي ضمن برنامج الحفاظ على خفض أسعار المواد الغذائية وغيرها ….
ومع ذلك تظل ظروف المواطن اليوم صعبة ومعقدة بما فيه الكفاية لأسباب عديدة داخلية وخارجية وذاتية ،لكن الغريب أيضا أن هذا المواطن هو الذي يترك فرص العيش الكريم بواسطة العمل للأجانب ،فأغلب الأعمال الحرفية في البناء والكهرباء والمياه وفي الصيد البحري وفي الزراعة يشغلها الأجانب بمئات الآلاف فعلى شاطئ البحر الممتد 750 كلمتر لا تجد قرى ولا تجمعات الصيد باستثناء (إيمراگن في 11تجمع بين لمسيد وتيشط)وعلى طول نفس المسافة تجد نهر يتدفق منه مليارات الأمتار المكعبة في البحر هدرا دون أن يطور الإنسان الموريتاني أي حرفة على هذه الموارد الهائلة إنها مسؤولية مزدوجة بين الدولة والشعب لكن الشعب كثيرا ما ينسى مسؤوليته ليحمل الحكومة كل شيء ….
يتواصل

محمد محمود ولد بكار