عند وصول الفرنسيين إلى هذه الأرض مطلع القرن الماضي، لم يدخروا جهدا في محاولة استغلال مختلف ثروات البلد والتمكين لمؤسساتهم التجارية، ففضلا عن عن استمرارهم في المعاملات التجارية التقليدية التي كانوا يقومون بها مع بعض الجماعات المحلية كتجارة الصمغ العربي.. ففتحوا المجال واسعا لرجال أعمالهم، فظهرت مؤسسات وتكتلات تجارية فرنسية كانت في أغلبها جزء من المنظومة الاستعمارية كمؤسسات: SIGP ،ميفرما، لاكومب ، چوميز ، بوهان تيسير، كولاس ،بيريساك ....
وبعيد حصول البلاد على الاستقلال عن فرنسا استمرت هذه الشركات الفرنسية لفترة ليست بالقصيرة في الهيمنة على النشاط الاقتصادي والتجاري بصفة مباشرة أو عن طريق بعض فروعها الاقليمية مستغلة غياب المنافسة المحلية
وترافق ذلك مع وصول عائلات عربية شامية اغلبها لبنانية أفتتحت شركات ومحلات نالت شهرة واسعة خصوصا خلال عقدي السبعينات والثمانينات من اشهرها:
جورج ناصور (مالك اول مجزرة عصرية في انواكشوط)، و عائلة فواز (مالك البقالة الشهيرة " بقالة فواز ")، و عائلة خوشمان ( ملاك محلات المفاتيح)، وعائلة لحاف ( متجر لامودا )، وعائلة حجار ( مالك مخبزة حجار القديمة والشهيرة ) وعائلة النبهاني وعائلة بيطار.....الخ
خلال مرحلة التأسيس، ووعيا منه باهمية وجود قطاع خاص وطني حرص الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله على دعم وتشجيع قطاع الأعمال الوطني الناشئ وفتح المجال امامه واسعا وذلك بإشراكه في الكثير من الورشات الإنشائية الكبرى، كما حدث إبان المفاوضات المتعلقة ببناء الحي السكني التابع لشركة معادن موريتانيا في اكجوجت " Somima "، حيث رفع جلسة التفاوض مع المستثمرين الأجانب مشترطا اشراك المقاولين الموريتانيين رغم معارضة الكثيرين بحجة عدم امتلاك المقاولين الموريتانيين القدرة والخبرة للقيام بذلك، وكان لهذه المواقف وغيرها دور قوي في ظهور شركات مقاولة ومؤسسات وصناعات واعدة يقف خلفها مجموعة من رجال الأعمال الوطنيين من اشهرهم: فتىً ولد مولاي ارگيبي ، بمب ولد سيدبادي، حميَّ ولد الطنجي ، مولاي ولد الغرابي، البشير ولد بزيد ، حاجي ، عبدالله ولد انويكظ ...
ومن يومها بدأت تظهر شركات موريتانية في مختلف مناحي النشاط الاقتصادي، أستطاعت رغم حداثة نشأتها وتواضع امكانياتها سحب البساط تدريجيا من تحت اقدام الشركات الفرنسية واذرعها الاقليمية، في تناغم مع توجه حكومي لتدعيم الاستقلال الذي تم الحصول عليه باستقلال اقتصادي وهو ما توج بالقرارات الكبرى مطلع السبعينات التي تمثلت في الخروج من منطقة الفرنك الغرب افريقي وسك عملة وطنية هي الاوقية 1973 ، ثم تأميم شركة ميفرما 1974، واستقطاب الاستثمارات العربية ...
أسماء وعلامات تجارية كثيرة بقيت في الذاكرة الجمعية من تلك الحقبة، ففي ميدان المقاولات مثلا نتذكر :
*شرکة البناء والصناعة الموريتانية "سوسيم SOCIM ":
هي شرکة بناء تأسست عام 1962 كان رئيسها ومديرها العام السيد شيخنا ولد محمد الاغظف رحمه الله ، تولت هذه الشركة إنجاز الكثير من الأعمال كان أهمها تشييد حي "سوسيم" في انواكشوط الذي لايزال يحمل اسمها والكثير من المباني الحكومية والأشغال الأخرى .
*الشركة الموريتانية للبناء والأشغال العمومية
" سوماكو SOMACO-TP "
لمالکها رجل الاعمال بمب ولد سيدي بادي، لا زالت بعض انجازاتها شاهدة حتى اليوم كعمارة "آفاركو" الشهيرة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والكثير من المدارس والمباني الإدارية الاخرى... وقد توقفت هذه الشركة منذ عدة عقود بسبب بعض المضايقات التي تعرض لها مالكها.
*الشرکة العامة للمباني والأشغال العمومية E.G.B -TP
أسسها عام 1965 رجل الأعمال المرحوم فتى ولد مولاي ارگيبي, وقد تولت إنجاز الكثير من المشاريع و البنى التحتية الهامة : مثل مسجد المدينة المنورة (الجامع السعودي)، وقصر العدالة، وعمارة "اسمار "...
أما في ميدان الصناعة فكانت أبرز شركات تلك الفترة هي :
* الشرکة الموريتانية للصناعة العامة والحديثة : SOMIGEM
هي شركة لصناعة الصابون أسسها رجل الأعمال المرحوم محمد ولد ابراهيم ولد ديه عام 1976، وقد تميزت منتجاتها من الصابون بالجودة العالية حيث أستطاعت تغطية حاجيات السوق المحلية من هذه المادة والوصول لأسواق بعض الدول المجاورة.
* الشرکة الوطنية للملابس الجاهزة " سوناكو "
وهي شركة عمومية لصناعة الملابس، افتتحت عام 1975 ابان الاحتفالات المخلدة لعيد الاستقلال ، ويقع مقرها في مقاطعة الميناء وبعد توقفها عن العمل لفترة طويلة حلت محلها عام 2013 مؤسسة لصناعة الملابس تابعة للجيش الوطني .
* الشركة الموريتانية لصناعة علب الكبريت "سومورال SOMAURAl "
هي شركة تأسست عام 1972، يملكها رجل الاعمال عبدالله ولد انويگظ رحمه الله، وكانت علب الكبريت المصنعة من طرفها مغطاة بغلاف ازرق عليه صورة جمل يركبه رجل يحمل بندقية.
* شرکة سيبروشيمي Ciprochimie
هي شركة للمبيدات والمواد الكيميائية يوجد مقرها بجوار حدائق انواكشوط القديمة "لحرايث" تأسست عام 1975 ، كان رئيسها ومديرها العام رجل الأعمال والوجيه المرحوم هاديا گاو دياچانا من مدينة كيهيدي.
وفي ميدان التجارة العامة والتجهيزات .. ظهرت شركات كثيرة منها ممثليات لبعض الشركات والماركات الاوربية التي كانت تهيمن على السوق آنذاك مثل:
* شركة سوكومتال لمالكها المرحوم سيدمحمد واد العباس التي كانت تتولى تمثيل سيارات "سافيام " و " رينو " ، وممثليات لماركات أخرى من السيارات كانت منتشرة مثل : " لاندروفير " و "بيجو " و "سيتروين" و "هوندا" و"فيات" ....
ومؤسسات ورجال أعمال آخرين كانت لهم ولمؤسساتهم اسهامات كبيرة ودور فعال في قطاع المال والاعمال في بلدنا مثل: سيركوما، سوماكوجير، روكوجيم ، سوبوما، سوجيكو، كوتيما،....
وفي مجال المكتبات والمستلزمات المكتبية والمدرسية ظهرت عدة مؤسسات وطنية كانت ابرزها " جراليكوما " و "نوزوماسي " ......
* المكتبة التجارية الموريتانية الكبرى Gralicoma:
هي أكبر واقدم المكتبات التجارية في موريتانيا، أسسها الأخوين قاري والنعمان منتصف السبعينات، وظلت على مدى أكثر من عقدين الوجهة الأساسية للباحثين عن الصحف والمجلات والكتب ومختلف المستلزمات المكتبية والمدرسية.
وحول الصعوبات التي واجهها رجال الأعمال الأوائل في تأسيس شركات ومصانع يقول مؤسس أول شركة لصناعة الصابون في موريتانيا " SOMIGEM " رجل الأعمال محمد ولد ابراهيم ولد ديه رحمه الله( في مقابلة سابقة مع الوکالة الموريتانية للأنباء نشرت بتاريخ 2010/11/11 ) :《 كنا قبل سنوات الاستقلال نمارس نشاطنا التجاري في دولة السنغال المجاورة، وبعد استقلال بلادنا انتقلنا إليها وإلى انواكشوط تحديدا في الوقت الذي كان فيه كافة التجار الموريتانيين أو أغلبهم يتمركزون في مدينة روصو التي كانت تشكل يومها العاصمة التجارية للبلاد, وصلت إلى نواكشوط سنة 1969 وجدت وضعية البلاد التجارية دون المستوى وخصوصا من حيث المستوردين والمستهلكين، ومع ذلك اتخذت مكانا تجاريا بالعاصمة وبدأت استيراد البضاعة من الخارج بالرغم من ضعف سعرها نتيجة قلة سكان العاصمة , وبعد فترة وبفعل الطموح، وجدت أن مردودية العمل التجاري على هذا النحو ضعيفة ففكرت في الصناعة، وهنا عدت إلى دكار حيث تتواجد مجموعة من الشركات الصناعية التي سبق وان ارتبطت معها بعلاقات عمل، وهناك اطلعت على طبيعة النشاط الصناعي وجمعت معلومات هامة قبل أن اذهب إلى باريس لدخول عالم الصناعة.
بخصوص مصنع الصابون، قمت بدراسة المشروع واعتمدت على الخبرة الميدانية للمتخصصين قبل أن أتوجه إلى باريس حيث استطعت بمساعدة أحد الفرنسيين المتخصصين الحصول على عرض لإقامة مصنع من أجود مصانع مادة الصابون يومها وعدت إلى موريتانيا للتحضير للانطلاقة، وعند عودتى اتصلت بأحد الأصدقاء ربطتنى وإياه علاقات تجارية سابقة وهو السيد محمد احمد ولد حمود تغمده الله بواسع رحمته وأقمنا شراكة فى المصنع وكنت قد أكملت كافة الإجراءات ولم يبق إلا استيراد المصنع المذكور والعمل فيه، وعندها تقدمنا إلى المؤسسات المصرفية فى موريتانيا وكانت يومها تنحصر فى بنكي (BEAO) و(BIMA) حيث تعاملنا معهما فى شراء المصنع وتمت العملية وعندها اكتتبنا مجموعة من الفنيين من خريجي الثانوية الفنية وكان عددهم 7 أشخاص وقمنا بتكوينهم فى باريس على طريقة تشغيل المصنع، وبعد ذلك تم تركيب المصنع فى موريتانيا من قبل فنيين فرنسيين وبقي معنا أحدهم للإشراف على الفنيين الوطنيين لفترة ضمانا لحسن سير المصنع.
ولما كان هذا المصنع من أكبر المصانع بحيث ينتج يوميا 80 طنا فى الوقت الذى كان فيه استهلاك البلاد ضعيفا جدا نتيجة ضعف وقلة تعداد السكان وكون الطرق غير معبدة مما أسفر عن ركود فى المادة المنتجة، قمنا بفتح ممثليات لنا فى ولايات الوطن فى أطار وكيفة وروصو وكيهيدى وسيليبابي ونواذيبو يتم تزويدها بالصابون، واستطعنا بذلك أن نقضي على حالة الكساد التى عرفها الصابون وأصبح سكان المناطق المحاذية لمالي والسنغال أكبر المستهلكين بفعل التسهيلات التى كنا نقدمها لهم وهنا نجح المصنع.
واجهتنا صعوبات جمة ونحن نخطوا خطواتنا الأولى لإقامة هذا المصنع. وكان من الوارد أن تمثل قلة السكان وضعف استخدامهم لمادة الصابون أداة لصرفنا عن المشروع،وبما أن غايتنا ليست مقتصرة على الربح فقط، فقد كنا نراهن على مستقبل البلد وما سيوفره المصنع من مردودية على خزينة الدولة، وما يقدمه من اسهام في تشغيل اليد العاملة التى وصلت يومها إلى 60 عاملا، وهنا استفاد المصنع من تسهيلات الدولة التى تعهدت بحمايتنا وتوفير العملة الصعبة لنا فى الوقت الذى كان فيه البنك المركزي عاجزا عن توفيرها وكان يقتصر تزويده بالعملة الصعبة على شخص أو اثنين فى كل ولاية يستخدمونها لاستيراد مواد مغايرة، وقد عانيت وأنا أطلق هذا المصنع من تثبيط العزيمة، حيث كان المثبطون يقولون إن إنشاء مصنع للصابون استعصى على الأوربيين وأصحاب الخبرات والوسائل فكيف تمكن إقامته فى صحراء مثل موريتانيا نظرا إلى أنه لا توجد بها أية إمكانيات ولا يوجد بها ميناء بل كان فيها مرفأ أو مرسي ترسو فيه السفن على مسافة بعيدة ويتم إفراغ حمولتها عبر قوارب صغيرة إلى غير ذلك من الصعوبات، ومع ذلك لم تضعف هذه العراقيل من عزيمتنا بل تابعنا وصبرنا حتى حققنا النجاح المراد الذى أردنا من خلاله ان ندفع الآخرين إلى التوجه نحو الصناعة. وهذه فرصة لأحث رجال الأعمال على التوجه نحو الصناعة فى هذا البلد الواعد المستقر والآمن والذي يشكل قبلة للجميع.
وأقول إن الصناعة من أفضل المجالات لأن مردوديتها تعم الجميع: الخزينة العامة، المصنع نفسه، المواطنين... والتجارة هامة بالفعل لكن الصناعة أهم باعتبارها المستقبل الواعد لموريتانيا التى تحظى اليوم والحمد لله باهتمام كبير.》
بقلم : Ahmed Ebatt
مجلة الثقافة الموريتانية، العدد الخامس