بدأ الاهتمام العالمي بالاتصال الثقافي في أواخر القرن العشرين مع تسارع وتيرة العولمة وتنامي ظاهرة الهجرة بسبب الحروب والأزمات السياسية والاقتصادية في بعض دول العالم، مما دفع بالشعوب إلى الانفتاح عن بعضها و التواصل فيما بينها ، أدى ذلك إلى التفاعل الثقافي بين الثقافات العالمية و ولد نوعا من التلاقح الفكري والحضاري .
و قد ساعد على ذلك وسائل الاتصال الرقمي ، من أنترنيت و شبكات التواصل الاجتماعي و الصحافة الإلكترونية و كل أشكال الاتصال الإلكتروني ، التي تغلبت على قيود الوقت والمسافة و شملت مختلف أنحاء العالم ، وأصبحت التكنولوجيا الرقمية في متناول الإنسان ، و بمثابة النافذة الأساسية التي يطل منها على العالم ويعرف من خلالها بثقافته وحضارته و يتعرف على ثقافة الآخرين و حضارتهم ، و يصل عبرها إلى مصادر المعلومة و المعرفة.
وجدير بالإشارة إلى أن السرعة الفائقة و التطور الكبير في صناعة تكنولوجيا وسائل الاتصال والمعلوماتية، أحدثت الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة التي تمتلك تلك التكنولوجيا والدول النامية التي تفتقر لها . و في هذا الصدد ، نطرح السؤالين التالين : كيف يمكن للثقافة العربية أن تفرض ذاتها في سياق الاتصال الثقافي العالمي ؟ و كيف يمكن توظيف ثورة الاتصال الرقمي في دعم الاتصال الثقافي وتقليص التباين بين الثقافة العربية و الثقافات الأخرى الذي أحدثته الفجوة المعلوماتية ؟
قبل محاولة الإجابة على هذه الإشكالات ، لا بد أن نشير إلى أن نمو وسائل الاتصال الرقمي وتطورها السريع أدى إلى تغيرات شاملة في الحياة الثقافية في العالم المعاصر، وأصبح من السهل أن تنعقد العلاقات والصلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية بين الدول والشعوب بشكل واضح وعميق، بل صار من غير الممكن أن تعيش ثقافة محلية ما بمعزل عن ثقافات بلدان العالم ، و أصبحت المادة الثقافية ، المتعددة المصادر و الروافد، متاحة للجميع على شبكة الإنترنت. كما أزيحت الحدود التي كانت تعيق الاتصال الثقافي بين مختلف شعوب العالم. و في الوقت نفسه، أدت تكنولوجيا وسائل الاتصال الرقمي إلى إحداث صدام ثقافي أو مواجهات ثقافية غير معهودة قد تؤدي إلى الغزو الثقافي أو إلى ما يسمى ب " عولمة الثقافة " أو "العولمة الثقافية". وهي ثقافة ذات بعد واحد ، ثقافة الدول التي تملك وسائل الاتصال الرقمي المتطورة القادرة على اختراق الثقافات الوطنية والمحلية لصالح ثقافة عالمية واحدة ، تحركها أهداف و مصالح اقتصادية للدول الصناعية .
هذه الثقافة العالمية ، ذات الجذور الغربية الليبرالية بالأساس ، تشكلت في العقد الأخير من القرن العشرين، و تقوى نفوذها بعد نهاية الحرب العالمية الباردة و انهيار جدار برلين و اكتساح فكرة العولمة ، و أججتها الأطروحات و الأفكار بعد أحداث أحداث 11 سبتمبر عام 2001 بالولايات المتحدة ، مما ساهم في انفراد النظام الليبرالي بقيادة العالم، و السعي إلى تعميم ثقافته وقيمه على الآخرين، و فرض فكرة انتصار الحضارة الغربية كآخر حضارة في العالم ، كما روج لذلك العالم و الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير ". هذه الثقافة صارت تنتشر بقوة على حساب ثقافات محلية ووطنية عديدة ، كما ساعدت وسائل الاتصال الرقمي على انتشار أفكارها و أطروحاتها .
و لذلك، قد يكون أحد أكبر التحديات المصاحبة لهذه التغيرات في المنطقة العربية هو الخوف من ذوبان الثقافة العربية وموروثها أمام الثقافة العالمية الجديدة المهيمنة، خصوصا مع انتشار وسائل الاتصال الرقمي والانتشار الواسع والسريع للمحتوى الثقافي الغربي بفضل ما حققته التكنولوجيا الحديثة للمعلومات .
في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن الاتصال الثقافي يعد ضرورة مهمة لتطور وتجدد الثقافة العربية و لنشر موروثها وتعزيز مكانتها الأدبية والثقافية على الصعيد العالمي ، و إلا تعرضت هذه الثقافة إلى خطر التهديد والتلاشي، لا سيما ما يتعلق منها بالموروث الثقافي الغني و الغزير بأشكاله و ألوانه الابداعية . فالثقافة العربية غنية بروافدها المتنوعة ، وتحتاج إلى التجديد لتغدو ثقافة عالمية تنويرية. وهذا لن يتأتى إلا عن طريق فهم الموروث الثقافي، وتربية النشء على الفكر العقلاني والحس النقدي ، و مواكبة التطور العلمي و تكنولوجيا المعلومات ، حتى تستطيع الثقافة العربية أن تقوم بأدوارها على أكمل صورة نحو بناء مستقبل مشرق للأمة وللمجتمع.
فضلا عن ذلك ، فإن الاتصال الثقافي يساعد على نقل التراث الثقافي بين الشعوب ، و يعمل على تسهيل التواصل بين الأفراد و الجماعات ذات الثقافات المتعددة و يسهم بصورة كبيرة في إمكانية وإيجاد فرص التحاور والثتاقف و التلاقي. وهذا بدوره قد يساعد الثقافة العربية أن تخرج من عزلتها ، من أجل الانفتاح على الرصيد الثقافي العالمي والمساهمة مع ثقافات العالم في تشكيل حضارة إنسانية فاعلة، ، دون أن يعني ذلك الانصهار و الذوبان في ثقافات أخرى أو في الثقافة الواحدة المهيمنة.
و على ذلك ، ينبغي على البلدان العربية أن تستثمر وسائل الاتصال الرقمي في ترويج مبادئ الانفتاح الفكري والثقافي على الثقافات الأخرى وضرورة التفاعل معها تفاعلا إيجابيا يفضي إلى تطوير الحضارة الإنسانية بمجملها، و في نفس الوقت إظهار الوجه المشرق للثقافة العربية وبموروثها المتجذر في التاريخ ، على مستوى الأدب و الشعر و الموسيقى و الفنون الأخرى المختلفة ، لأن انغلاق الثقافة العربية على ذاتها وعدم تفاعلها مع الثقافات الأخرى يؤدي إلى تحجر هذه الثقافة وجمودها وركودها وعدم مجاراتها للتطور الحاصل في العالم.
إن حتمية الاتصال الثقافي بين الشعوب هي حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها، يمكن عن طريقه تفعيل التواصل بين الثقافة العربية وبين الثقافات الأخرى، وتكثيف حُضورها على الصعيد الدولي، والعمل معًا على تقديم صورتها المشرقة و التعريف بأهمية التراث الثقافي العربي المتنوّع و نشر قيم الحوار والوسطية والسلام في العالم و جعل الثقافة العربية رائدة التواصل الكوني ، على خلاف من يريدون تشويه هذه الثقافة على أساس أنها ثقافة متزمتة و منغلقة و غير مبدعة.
و تأسيسا عل ذلك ، فإن التحدي الأكبر أمام الدول العربية يتمثل في المحافظة على بقاء الثقافة العربية قوية بمكوناتها الأدبية و التراثية العميقة التي تزخر بها وتطهيرها من التشوهات التي طرأت عليها ، في فترة من التاريخ ، و إكسابها القدرة على مقاومة الغزو الثقافي و فرض ذاتها، كثقافة أصيلة و ذات حضارة و تاريخ مجيد .
هذا التحدي هو السبيل الوحيد لفهم و استيعاب الحضارة المعاصرة، التي يبقى الانفتاح عليها أمرا ضروريا للاستفادة مما هو إبجابي فيها ، و أيضا وسيلة رئيسية للحوار الثقافي و الحضاري ، دون مساس بالقيم والعقائد والمبادئ التي تعكس الهوية الثقافية لكل مجتمع ، لأن الاتصال الثقافي لا يعني انصهار ثقافة ما داخل ثقافة أخرى أو المطابقة بين الثقافات ، وإنما يعني بالدرجة الأولى الحوار بينها و استيعاب بعضها البعض و إبراز المضامين الإبداعية و الإنسانية والحضارية لكل ثقافة .
بقلم الدكتور خالد الشرقاوي السموني
أستاذ العلوم السياسية – جامعة محمد الخامس الرباط