[ورقة مقدمة لمهرجان بوتلميت الثقافي/النسخة الثانية :29-30-31 مارس 2019]
الدكتور. هارون ولد عمار ولد إديقبي
نائب المدعي العام بمحكمة الاستئناف بنواكشوط؛
دُونَ تعَمُّقٍ؛
يَبْدُو عنوانُ هذه المداخلة من مَلفوظ صياغته جليَّ المعالم لتعلِّقه بالقضاء و مسيرة القضاة في مدينة بوتلميت.
ولئن اقتضت تقاليد المنهج العلمي ان نبدأ بموضوع القضاء تعريفا به، فان الضرورة تلجئُنا الى تنكُّب هذا التقليد اذ من الواضح الجلي لكم ما يتعلق منه بالقضاء، الذي هو بالقيْد المعروف: الاخبار بالحكم الشرعي على وجه الإلزام، والذي تتوق له النفس هو بسط الكلام عن خُطًّته في هذه المدينة المحروسة.
وبما أنَّ المَقامَ مقامُ تأريخ لمسيرة ظافرة لقُضَاتها، فإنَّ التعريج الى استجلاء كُنْه حدودها زمانا ومكانا سيكون من الأجْدَى عند الحديث عن هذا الموضوع، مع اننا لا نطمح هنا الى كتابة تاريخ المدينة؛ اذ يعوقنا التخصص ويكفينا مؤونةً ما سطَّره ابن المدينة واحد قضاتها الاوائل بعد الاستقلال القاضي المؤرِّخ: هارون ولد الشيخ سيديَّا في ملخصه الوجيز الذي كتبه مطلعَ عام 1969 بناء على طلب الاداري الكبير ابراهيم ولد بَدَّ ولد الشيخ سيديا ، و المُكْفى سعيد.
فبوتلميت الذي تعنيه هذه العجالة هو [فضاء] تلك البئر الشهيرة التي حفرها الشيخُ سيدي الكبير بنُ المختار بنُ الهيبة بنُ احمد [ دولة] بن ابي بكر [ انْتَشَايِتْ]، بعد مقدمه من آزواد مُنهيًا رحلته العلمية اوائل سنة 1243 هـ/1827م - وهو العام الذي توفي فيه شيخه حرمه بن عبد الجليل وقد ادرك من بقية حياته شُهورا- . وقد شرع في حفرها في رمضان بعد ان استشار أسنَّ من فيه قَبِيله وهو انذاك الشيخ عبد الجليل بن محمذن [الناه] بن احمد بن ألْفَغَ محَّمْ بن الفالي بن محمد القاري [أَقْرَهَاوَ] عن مكان لا يدعيه أحد ولم يتقدم عليه احياء فأشار اليه بهذا الموْضع الذي اصبح مقرًّا له في اكثر الاوقات و لأتباعه و المتعلقين به، وقبلة سياسية و روحية وعلمية خلال القرن 13هـ، متباهيا بها في شعره:
ألا عِــــــمْ صباحًا يا أبا تلميتـــــا وحُزْ من نجاح ما أردت و شِيتَا، وداعيا لها.
يا واسع الرحمات يا فتَّاحُ يا من دُعاه لِبَابِه مِفْتَاح...
ينحطُّ كَلكَلُه على مثوى ابي تلميت ثم على الَميامن راحُ... مشتاقا اليها كل حين
ظهرت معالمُ ارضنا مثلُ الغررْ يا حبذا نُجُدٌ تبدتْ للبَصَرْ
ارض تُحبُّ نزولنا ونحبُّها فيها ابو تلميت ثُـمَّت ذُو عُشَرْ .... ومدحها من احبه كابن حنبل في بائيته الطنانه: اضْرمَ الهَمَّ سُحَيْرًا فالتهبْ لمعُ بـــــرْق بِرُبَيَّات الذَّهبْ
وعلى ذي التِّيلميت اسْتَوسَقَتْ لمَزار الشَّيخ تُهَدِّي بالهِضَبْ..
ومن بعده كانت منطلق حفيده الشيخ سيدي باب لإقامة حكم مركزي في هذا المنكب البرزخي المترامي [وهي المحاولة الناجحة الناجعة التي اثمرت دولة موريتانيا] فكانت عنده:
ابو تلميت واسطةُ البلاد هَدى اهليه اذ نَزلوه هادِ
توسَّط بينها شرقًا وغربًا وبين الريف منها والبوادي
هواء طيِّبٌ ونميرُ ماء الى الشُّم الحسان من النجادِ
وما فضل الارجاءَ إلا رجالها وإلا فلا فضلٌ لتُرْبٍ على تُرْبِ.
ففي هذا النطاق الجغرافي بمفهومه الجغرافي الواسع لا بمفهومه العقاري الضيِّق الذي يعني المجال العقاري المسجل لصالح اسرة اهل الشيخ سيدي في السجلات العقارية لعام 1947 بناء على الحكم:63 من سجلات قاضي بوتلميت سيدي محمد ولد داداه و المصدَّق من قبل Le capitaine Rampiani, commandant de cercle du Trarza بتاريخ:09/01/1929 بقوله:
Les jugements du n° 58 au n° 102 on été vus par la commission de contrôle et n’ont donné lieu à aucune observation.
والمحدد بما بين مطار انْتُورْجاتْ القديم جنوبا، ويذهب مسامتا في الجهة الشرقية الى كَوْدْ النِّطْفِيَّة، ويسامت شمالا الى ان يجاوز من وراء مدْفَن البَعْلاتِيَّة، ويذهب في الشمال الغربي حتى يأتي من وراء ربوة [زِيرِتْ] بَكَّلْ ، ويصل الى مسامَتَة كَوْدْ انْتُورْجَاتْ ، وينعطف جنوبا الى ان يصل حيث بدأ].
و سيكون الحديثُ عن مسيرة القضاء في المجال الجغرافي الواسع لبوتلميت/المركز الحضاري، محاوِلاً تحْقِيبها الى حِقْبَتَيْن: حقبة ما قبل الاستعمار التي تنتهي بوصول الوالي الفرنسي للمدينة سنة 1903 ، وحقبة ما بعده .
وما من شك أن المتتبِّع لتاريخ القضاء في هذه المدينة سيدركُ دون عناء أنه لم يخرج عن السياق العام الذي كانت تشهده المنطقة والذي تطبعه الفوضى وانعدام الحكم المركزي و طغيان: المشيخة، و القبيلة، و الامارة الذي ترك اثره على ممارسة السلطة القضائية في هذا المجتمع، مما ادى الى طرح اشكال مشروعية الحديث عن خطة القضاء في ارض موريتانيا الامس في ظل غياب السلطة المركزية.
ورغم معالجة الشيخ محمد المامي و البخاري المتشائمة لخُطَّة القضاء التي كرسها في كتابه البادية، فان هذه الارض عرفت بالفعل قضاء كيَّفَتَه مع واقعها الاجتماعي و السياسي، وذلك باضطلاع جماعة الحلِّ و العقد فيه بدور السلطان الغائب في هذه الارض التي لا يأتي على اهلها سبعة ايام إلا اجتهدوا في نازلة، فكان لكل قبيلة فقيه يٌستفتى، و "لا تخلو اكثرُ قبائل الزوايا من مُحاكَمٍ اليه، اقلُ ما يحْصل من الرَّفْع اليه الإِخبارُ بالحُكْم"، كما يقول القاضي محمَّذِن ولد محَنْض بَابَ [توفي 1902].
وانطلاقا من هذا فقد عرفت هذه المنطقة ثلاثة انواع من القضاة هم: قضاة الجماعة، و القضاة المحكمون، و القضاة المحليُّون.
فقد كان للإمارة أو القبيلة قاضيها العام الذي يطلق عليه قاضي الامارة او قاضي الجماعة و هو قاضي القضاة كالقاضي محنض باب ولد أعبيد و القاضي: سيد احمد بن محَّمْ بن خاجيل بن احميدي بن خاجيل بن امرابط مكَّه الذي وَلِيَّ قضاء الامارة في زمن الامير أعمر ولد المختار، بعد أن تصدَّر على محنض باب ولد اعبيد الديماني، و حرمة ولد عبد الجليل، وسيدي محمد ولد سيد عبد الله العلويين، و كان مرافق الشيخ سيديا الكبير في مساعي الصلح في قضية تَبَيْتْ المشهور كان قاضيا ماهرا ترجم له ابن حامدٌ في وفِيَّات الاعيان توفي عام 1294هـ/1877م .
ومنهم القضاة المحكَّمون وهم من يحكِّمه الخصمان في النزاع وقد حدد الفقهاء مجال ولاية هذا القاضي بالقضايا المتعلقة بالأموال دون الحدود و القصاص فقضاؤه مجرد رأي في القضية، وقد سئل الشيخ سيدي رحمه الله عن امكانية رجوع المُحكَّم في حكمه فقال: "الصواب ان المحكَّم اذا فرغ من الحكومة التي حكم فيها يصير معزولا عنها، فلا يقبل قوله بعد ذلك كالقاضي المنصوب للقضاء".
وعلى الرغم من تشكيك الشيخ محنض باب في اهلية المحكم القانونية حين قال:" انه ليس من اهل النقض لان النقض حُكم، وهو لا يحكم من غير تحكيم فما يصدر منه فتوى لا نقض حكم ولا حكما"، إلا ان هذا النوع من القضاء ظل سائدا فقد حكم اعمر ولد المختار النابغة القلاوي في نزاع من يحق له الاشراف على ميناء بورتانيك و التي قال فيها النابغة قوله المشهور: واعلم ان الارضَ ارضُ تنْدَغَا ومن اراد سبْقَهُم فقد بَغــَــى.
وحكَّم سيد ولد محمد الحبيب القاضي احمد ولد بدي العلوي [توفي 1905] في خلاف فقهاء الترارزة مع الشيخِ سعد أبيه وأخيه محمدٍ المأمون فحكم لهما، ومنه تحكيم العلامة ولد احمذي في النازلة التيجانية ، ومنه تحكيم الامير بيَّادَه للقاضي الجليل الحافظ ولد سيد احمد بن مَحَّمْ في نزاع قبلي معروف وَلِيَّ القضاء بعده طويلا في تكَانِـتْ.
ومن الذين انتصبوا له من ابناء بوتلميت : القاضي أعمر ولد بُدَّه الفالي و الذي قدم البلاد قبل مجيء الشيخ سيديا بعشر سنين وكان يثني عليه الشيخ في النوازل فكان قاضيا ماهرا، ة القاضي العالم احمد ولد محمد سالم ولد أحمد محمود ولد محم بابو الملقب أبتي والذي طلب منه الفرنسيون تولي القضاء فرفض .
و اما القضاة المحليون فهم المنتصبون للقضاء في بقعة من قبل المشيخة او جماعة الحل والعقد أو الحاكم وعلى رأس المعينين بتلك الطريقة [عيَّنه الشيخ سيدي باب] القاضي و القائد و المفتي والشاعر العلامة سيد المختار بن أحمد محمودْ بن محمد مختار الملقب "مُتَّالْ" المولود سنة 1252 هـ الموافق 1838 م، وقد اخذ عن الشيخ سيدي الذي تنبَّه باكرا الى نجابته و سرعة فهمه و كان صنوا وملازما لابنه الشيخ سيدي محمد حتى كانت عبارة:"العِيِّلْ" لا تطلق إلا عليهما فاشتركا في كل شي حتى في الشعر ومن ذلك المقطوعة التي اقتسماها صدرا وعجزا ابَّان سفرهما نحو تِيرسْ، فجاءت بديعة و التي يقولا فيها:
هاج التَّذكرَ للأوطان في الحين برق تألَّق من نحو الميامين
برق يحاكي اقـْتذاءَ الطير آونةً ونبضةَ العِرْقِ في بعض الأحَايين ... إلخ.
وقد ذاع صيت القاضي مُتَّالْ فمُدح كثيرًا بالشعر الفصيح والشعبي ،و يكفي للتدليل على ريَّادته جواب الشيخ سيدي باب له على قصيدته الذائعة:
مِنَ الشّيخِ نَجلِ الشَّيخِ أَلتَمِسُ الدُّعَا جزاهُ إلَهُ النّاسِ خيرَ جزائهِ
وكَافأَهُ عَن صُنعِهِ الجَمِّ فضلَهُ وكَافَأَهَ عَن جُودِهِ وسخَائِهِ
وعَن صَمتِهِ عَنْ غيرِ طاعةِ ربِّهِ وإِكرامِهِ المَلهُوفَ وقتَ نِدائِهِ
وعَن قَودِهِ للعُمْي والصُّمِّ لِلهُدى بِرِفقٍ وعنْ إِنفاقِهِ وحَيَائهِ
وعَن طُهرِهِ المَسبُوغِ آنَاءَ نَيلِهِ وعن قَومِهِ فِي ليلهِ ودُعائِهِ
وعَن قَولِهِ لِلحَقِّ إِذْ لَمْ يقُلْ بِهِ سِواهُ وعَن آدابِهِ واقتفَائِهِ
لسُنَّةِ خَيرِ الأنبِيَاءِ مُحمَّدٍ فكَانَ لأَجلِ الصِّدقِ مِن أولِيَائِهِ
وأيَّدَهُ فِي كلِّ خيرٍ إِلَهُنَا وأيَّدَهُ فِي أَرضِهِ وسَمَائِهِ
فيجبه الشيخ سيدي باب بقصيدة فهم منها مُتَّال نعيه فيقول:
جزى السَّيدَ المختارَ خيرَ جزائه إلهُ الورى عن نُصحه و وَفائِهِ
وعن حَلِّـــــه في ختمه وارتحاله وإقرائــــــه القرآن بعد اقْتِرائِهِ
وإحيائه الليل الطويل مواظبـــــا على طهره في صيفه وشتائه
وأوراده في كل يــــــوم وليــــلة وأحزابه في صبحه ومسائـــه
وعن فقهه في الدين و الجهلُ فائضٌ على ظُهْرها و الغَيُّ في غُلْوائه
وإكرامه للجار و الضيفِ جهدَه وعفَّــــته في عسره و مَلائِه
وإصلاحه امرَ العشيرة كلَّه وإعراضه عن جاهل في جفائه
وعن حملِه للكَل دأبا وعونِه اذا نابت الجُلَّى وحسن غَنَائه
وأكرمه في حاله و مئاله وكفاه ما يرضاه عند لقائه
و صلى على خير الانام مسلِّما وسائِر من قد أُكرِموا باصطفائه
وقد مَارَسَ القاضي مُتَّالْ الافتاء و القضاء خمسين عاما الى أن تُوفي- رحمه الله تعالى- سنة 1336 هـ الموافق 1917 م ودُفن في البعلاتية، واخذ العلم عنه ابنه الدَّاه ، و محمد محمود ولد يَدَّاد الحسني وله فتاوى فقهية جميلة، ورسالة في وجوب اداء الاتاوات للحُكَّام، ونقلة في الفرق بين الضاد و الظاء، ترجم له ابن البراء في المجموعة الكبري.
وفي وضوء وصول الفرنسيين الى هذه الارض فقد ارسل كبولاني رسالته الشهيرة الى الشيخ سيديَّ باب والتي يطمئنُه فيها متَعَهِّدا انهم لن يمنعوا المسلمين من تطبيق شعائرهم بل سيعينونهم عليها بتنصيب القضاة ونحو ذلك، وبناء عليه كان المرسوم الصادر بتاريخ 10 نوفمبر 1903 الذي نقل اختصاصات رئيس القرية الى قاضي القبيلة الذي يعينه مفوض الحكومة في موريتانيا ، وأبدل محاكم الاقاليم بمحاكم تنشأ في مقر اقامة المقيم وتتشكل من المقيم يساعده قاضي شرعي ووجيه لإحدى قبائل الزوايا ووجيه لإحدى القبائل المحاربة يعينهم بداية كل سنة مفوض الحكومة العامة في موريتانيا، و انشأ محكمة الدائرة التي تتكون من قائد الدائرة رئيسا يساعده قاض سام ورئيس قبيلة زوايا ورئيس قبيلة محاربة يعينهم مفوض الحكومة العامة بعد موافقة المدعي العام بداية كل سنة.
وسيتأسس بصدور المرسوم 5 يونيو 1905 نموذجان قضائيان: قضاء اهلي او محلي indigène و قضاء فرنسي، و قد ظلَّ النوعُ الاول ساريا رغم الاحتلال الفرنسي، ولم يقتصر على القضاة الرسميين [قضاة المقاطعة] الذين قلدهم الفرنسيون هذه المسؤولية فقد كانت دائرته اوسع من ذلك و ارحب فلا تكاد تخلو قبيلة ولا حي من قاض يقطع الخصومة ويبين الوجه الشرعي في كل نزاع ويمكن للخصوم بعد ذلك ان يعرضوا قضيتهم على أي قاض اخر يوافق ذلك ذلك القاضي السابق و أما النوع الثاني قضاء المقاطعة و يطلق على قاضيه القاضي السامي وهو الذي يحمل لقب قاضي الحاكم وينفذ العدالة باسمه ومقره المقاطعة وليس مخيم الامير ولا سلطان له عليه ويتقيد نظره بالقضايا المدنية و التجارية وتعتبر احكامه نافذة ما لم تتناقض مع المبادئ السامية للحضارة الفرنسية وهذا ما يفسر انتزاع الاختصاص في القضايا الجنائية منه .
لقد عين الفرنسيون لهذا الغرض القاضي العالم العامل العلامة سيد محمد [الراجل] ولد الدَّاه بن سيديا بن داداه بن المختار بن الهيبة الذي اخذ العلم عن عمه الشيخ سيديا الذي أوْلاَهُ موفور عنايته فهو بقية بيت اخيه الاكبر داداه ، ثم درس على ابنه الشيخ سيد محمد وعلى الشيخ محمد محمود ولد عبد الفتاح ، ودرس الفقه على العلامة محمد بن محمد سالم الذي ادركه حيا، و كان ماهرا في ديوان الشيخ سيد محمد يجري منه مجرى النفس ولد سنة 1265/1848 وتولى القضاء سنة 1911/1330هـ ، فكان قاضي المدينة الاهلي المعين الى عام 1348/1929 حيث تخلى عن القضاء وتفرغ للتدريس، وقد قال عنه الشيخ باب ولد الشيخ سيدي باب انه بلغ درجة الاجتهاد و وصفه بالعالم العامل، وقد اخذ عنه ابنه شيخ الشيوخ الشيخ عبد الله ولد داداه، و القاضي محمد يحي ولد الدَّنَبْجَة التندغي و المحدِّث محمد ولد ابي مدين، وقد كان حازما في اقضيته جميل الصياغة موجز العبارة ، يقول فيه مادحه على الدوام الشاعر مُحَمَّدُّو النَّانَّة بن المُعَلَّى.
تولَّى امور المسلمين فرمَّها وأحْصَى الحَصَا منْها علَى كَثرة عَدَّا
وسَاسَ عَلَى حِذْق وحُسن تصرُّف فما جَازَهُ حدٌّ ولا جاَوَز الحَدَّا
احاط بها علْمًا فحَاطَ حُدودها وأعطى جميعًا حَقَّه الحُرَ و العَبْدَا
مناقب سَمْح ٍيَشْتَري الحَمدَ بالنَّدى ومنْ ذَا الذي يُعطَى بلا ثَمَنٍ حَمْدَا .
وقد اشرت السجلات القضائية التي بين ايدينا و المشتملة على 248 حكما من قبل حاكم دائرة اترارزة وكتب عليها بتاريخ 23 شتمبر 1929: "إن جميع ما في السجل من احكام وصلح وتقديم قد تم نظره من طرف الجماعة المكلفة بالنظر في احكام القضاة و انها لم تقف على أي خلل فيما تضمنه السجل المذكور". توفي رحمه الله تعالى 1941م/1360هـ.
ومن بعده تولى الكرسي القضائي للمدينة القاضي الورع اسماعيل ولد باب و الشيخ سيدي [القاضي علما].
ولد سنة 1317هـ/1900م، درس على والده الشيخ سيدي باب، وعلى العلامة يحظيه ولد عبد الودود الذي استقدمه والده من اجل تدريس النحو، و على العلامة محمد يحي اليعقوبي وعلى القاضي الراجل ولد داده و على الشيخ محمد محمود ولد اكرامة المجلسي وتدرب على البحث على يد اخيه الاكبر العالم محمد ولد الشيخ سيديا وتكاد تجمع الروايات انه وَلِيَّ القضاء عام 1933 وكانت هذه التولية من قبل الدولة الفرنسية.
ولما وَلِيَّ القضاء و استقر على النَّجد الشرقي من المدينة قريبا من دار الكتب المعروفة بـ:"طيْبَة" استدعى جماعة من الفقهاء للإقامة معه و منهم: محمد عال ولد ألفغ الطاهر المجلسي، و محمد محمود ولد ابنُ عمر و القاضي احمد بن محمد سالم "أبَتِي" الابييري الانف وكانا خريجي محظرة اهل محمد ولد محمد سالم وكان يعرض عليهم ما يقضي به بين المتنازعين.
وكان القاضي اسماعيل ولد الشيخ سيدي يستنيب بعض العلماء ومنهم العلامة الجليل عبد الجليل ولد عبد الرحمن الذي استنابه 1939 وهو ممن اخذ عن باب ولد الشيخ سيديا وقد راجع حكمه في نازلة معروفة، فلما رجع نفذ ما سبق به الحكم بعد استشارة العلماء.
وقد استناب كذلك صديقه ومحبه المرابط محمد عالي بن عبد الودود 1307هـ /م1888- 1401هـ/1981م. الذي كان عازفا عن ممارسة القضاء إلا ان الحاحه صديقه جعله يستجيب، وكان المرابط محمد عالي متفانيا في حب هذا القاضي وفيه يقول:
الى الشيخ اسماعيلَ اوَّلِ اوَّل سلامي بنصٍّ بيِّنٍ لم يُؤوَّلِ
الى بحر علم للأنام مسبلٍ وقبلةِ حاجٍ للورى لم تحوَّلِ
ولم يسْتند يوما الى غير مُنْزلٍ فليس بخطِّيٍ و ليس بجدول
الى عمدتي امَّا خُذلتُ وناصري ومن هو بعد الله اولى معوَّلِ
ومن هو صَوْبي ما حَيِيتُ وان اكُن صَرفت الى من دُونه عَينَ احول
فلِي فيه استاذٌ ولِي فيه مُؤنسٌ و لي فيه شيْخ في الطَّريق وَ لِي و لِي
و ولا شك أن مقام المُرابِط محمد عال لا تلخصه الا عبارة شيخه العلامة يحظيه الذي كان شديد التعلق به حتى اذا جاءه كان يقول لتلاميذه اذا جاء ولد عدُّود فاني لستُ مَحْرَمَ الرجال يريد بذلك تفرُّغه للمذاكرة و الحديث معه .
وظل القاضي اسماعيل يزاول مهنتة القضائية الى ان تتقاعد سنة 1963 بعد 30 سنة من القضاء حتى صارت كلمة القاضي لقبا عليه ولكل من يتسمَّى باسمه من اهل بيته في الاغلب. توفي رحمه الله 1409/1988 ودفن بالبعلاتية وقد صدق الشيخ ابراهيم ولد يوسف ولد الشيخ سيديا [المُفْتي] حين قال مرثيته الطَّنَّانة له :
فما مثلُ اسماعيلَ قاضٍ عَلِمْتُه على ظَهْرهَا في الحَاضِرين و مَنْ غبرْ.
وقد ترجم له ترجمة وافية ظافية ابن اخيه و سمِيِّه القاضي اسماعيل ولد يوسف ولد الشيخ سيديا في مذكرة تخرجه من المعهد العالي للدراسات الاسلامية سنة 1991.
ومن بعده كان لأبناء هذه المدينة قَصَبُ السبْق في فصل الخصام فقد تولى القضاء منهم جِلَّةٌ كانوا من بين الرعيل الاول من قضاة الدولة بعد الاستقلال وهم:
القاضي محمَّدن ولد محمَّذن فالْ ولد احمَدُّ فالْ الشهير بالقاضي بن محمَّذِن فال التندغي وهو صاحب المناظرات الشهيرة مع الامام بداه في مسالة التقليد و الاجتهاد وهو شيخ محمد يحي الدَّنَبْجَة و قد توفي 1401-1980.
العلامة محمد يحي ولد محمد الدَّنَبْجَة وهو من علماء الحِلَّة التندغية الشرقية و رئيسها كما يقول بن حامدٌ، اخذ العلم عن الراجل ولد داداه وعن القاضي محمدِّن ولد محمَّذن فال بن احمدُّو فال التندغي وقد كان من القضاة التي تدربوا في بداية الستينيات من القرن الماضي في تونس وقد تولى القضاء الى أن توفي سنة 1978/1399.
القاضي محمد عبد الودود بن الشيخ محمد احمد بن الرباني التندغي الذي كان حجة في اللغة تولى القضاء الى أن توفي سنة 1401-1980.
القاضي و المؤرخ البحَّاثَة الجوَّالة هارون ولد الشيخ سيديا الذي اشتغل بالبحث و التأليف وجمع اخبار المنطقة، وظل معارا لوزارة الثقافة الى ان توفى 1977 و كان من اوائل الدفعة الاولى التي تم اختيارها بموجب المقرر رقم:315 بتاريخ:28/10/1960 المتضمن اكتتاب قضاة الدفعة الأولى [32] قاضيا. سيتم دمجهم بعد رجوعهم في سلك القضاء بموجب المرسوم رقم:110.50 بتاريخ:09\08\1963 وهي الدفعة التي كان من ضمنها بالإضافة اليه من ابناء مدينة بوتلميت القضاة: محمد ولد ابو مدين، و الدنبجة ولد معاوية، و محمد عبد الرحمن ولد ميلود، و محمد سالم ولد عدود، و محمد يحي ولد محمد الدنبجة، و محمد ولد محمَّذٍ فَالْ ولد اغْرَبَطْ الادْهَسيّ، ومحمد ولد عبد القادر ولد ديدي، و سالم ولد الحسن ولد زين، واحمدن ولد محمد مالك رحمهم الله جميعا.
و لا يمكن بحال ان يُختم الحديث في هذا الموضوع دون ذكر الدور الطَّلائعيِّ للمعهد الوطني للدراسات العليا الإسلامية ببوتلميت الذي أسسه القائد و العالم الشيخ عبد الله ولد الشيخ سيديا و اشرف عليه واستقدم العلماء والطلاب للتدريس و الدراسة فيه و الذي كان من مهامه الإشراف على تكوين القضاة طبقا لمقتضيات القانون رقم:098\61 بتاريخ: 24 مايو 1961، فقد كان لهذا الصَّرح الدور البارز في بقاء هذا العطاء متواصلا .. عطاء نرجو ان نُسْهِم في حمل لوائه.. وإلا يَكُن ذلك فجَهد المُقل..ولا يُلامُ المرْءُ في مبْلغ الجَهْدِ.
بوتلميت. 31/03/2019