ارتأيت في البداية أن أعرف بهذه الوثيقة المسماة "ميثاق الحقوق السياسية والاجتماعية للحراطين " والأهداف المتوخاة من وراءها سبيلا إلى تقديمها في شكل قراءة فلسفية أقف من خلالها على المبادئ السامية والقيم العليا التي انطوت عليها هذه الوثيقة وأثرها بشكل مباشر في خلق السلم والعدالة الاجتماعية في المجتمع الموريتاني .
إن وثيقة "ميثاق الحقوق السياسية والاجتماعية للحراطين" هي وثيقة تم إنشاؤها بإجماع من طرف قادة الحراك الحقوقي المناضل ضد العبودية بشتى أطيافه إذ شكلت هذه الوثيقة توثيقا لحصيلة التجربة السياسية و الاجتماعية الموريتانية منذ الاستقلال وما صاحبها من تغيرات وما انطوت عليه من استراتيجيات إصلاحية وما اكتنفها من أعطاب في السياسة و الاستراتيجيات و التي أثرت بشكل كبير على عملية الاندماج الاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية، والهدف الرئيسي من الوثيقة هو تقديم الأوضاع الموريتانية بخصوص حقوق الإنسان بعد مرور أكثر من نصف قرن على استقلالها بهدف تقديم مقترحات بغية إصلاح ما أمكن إصلاحه في أقرب الآجال على قاعدة المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان وحقوق المواطن من أجل المحافظة على السلم عن طريق أوحد متمثل في نشر العدالة بين كافة الشعب. فهي إذا بمثابة جرد متئد لتلك الصيرورة الاجتماعية ولمسلسل العدالة الاجتماعية في موريتانيا لحصرها في زاوية واحدة تكفل إطلاع الرأي العام عليها عن كثب وفي شكل منهجي منظم بغرض فتح صفحة جديدة ضمن موريتانيا متصالحة مع ذاتها استنادا إلى مشروع سياسي واجتماعي قوامه الانعتاق والحرية .
ونظرا لعمق الموضوع وأهميته وما حوت هذه الوثيقة من أبعاد أيديوسياسية عميقة، تمس كينونة الجسم السياسي للبلد، كان علينا في هذه القراءة الفلسفية الذي نحن بصددها أن نفك بادئ ذي بدء طلاسم ما غمض وخفي من هذه الوثيقة، لاسيما أنه ظهرت هنالك مؤخرا دعاوى جديدة تقلل من أهميتها بل وتصفها بالانتهازية وغياب أيديولوجية جادة للإصلاح، وتصف أصحابها بالعنصرية و أن أهدافهم برجماتية بالدرجة الأولى، كل ذلك دفعنا إلى بسط هذه الوثيقة وإعادة قراءتها واستجلاء ما انطوت عليه من مبادئ كان لها الأثر البالغ ليس على موريتانيا فحسب بل امتد تأثيرها إلى العالم، إذ شكلت مبادئها التي شدد عليها كاتبوها، من قبيل الحرية والعدالة والمساواة توافقا واعيا مع مبادئ وأهداف الربيع العربي آنذاك الأمر الذي يفسر ركوب المعارضة الموريتانية في خضم الربيع العربي موجة ميثاق الحراطين وقتها نظرا لشمولية مبادئه التي نادى بها أصحابه، بل يمكن أن نقول زيادة على ذلك أنها كانت مصدر الإلهام الأول للنخبة السياسية التي دفعتها إلى دخول معترك الربيع العربي في موريتانيا وإن على طريقتها الخاصة، فما هي أسس الفلسفية الإصلاحية والنهضوية التي قامت عليها وثيقة ميثاق الحراطين؟وكيف كان صداها في توجيه سياسة الدولة في مجال حقوق الإنسان؟
لقد نادى مؤسسو ميثاق الحراطين بمبادئ وأهداف أساسية تتخذ من الحرية والعدالة والمساواة متوكئا لها، في الوقت الذي كانوا واعين بأن هذه المبادئ والأهداف لن تتحقق في المجتمع بمعزل عن تحقيق أمور أخرى دعوا إليها تعتبر تمهيدا طبيعيا يؤدي إليها مباشرة، ولعل من بين تلك الأمور نذكر:
إقامة تشاور وطني موسع من أجل عقد اجتماعي حقيقي مبنىي على الحرية لكافة المواطنين والمساواة بينهم.
ومن خلال هذا النقطة سابقة الذكر يتأكد عمق الوثيقة التي تأبى إلا أن تقوم على أساس مبدأ مركزي من مبادئ الأمة الإسلامية وهو الشورى التي تقوم بالأساس على أخذ آراء أهل الخبرة و المعرفة في شتى المجالات سبيلا إلى الحيلولة دون تفرد شخص بتقرير مصير المجتمع و الدولة على حدا، ومن جهة ثانية تنطلق الوثيقة من فلسفة ديمقراطية حديثة تنادي بنفس القيم التي نادت بها ديمقراطية العقد الاجتماعي التي أخرجت أوربا من عهد الظلام، ولهذه الأسباب كانت وثيقة الميثاق تنويرا سياسيا فريدا مننوعه استيقظت بموجبه ذاكرة النخب السياسية الوطنية واهتدت إلى ضبط خيوط الإصلاح الذي نادى به مؤسسو ميثاق الحراطين.
يضاف إلى ما سبق دعوة مؤسسي الميثاق إلى ضرورة التعليم واعتباره البوابة الأساسية لكل إصلاح سياسي واجتماعي وديني من خلال المطالبة بخلق مناطق مختارة للتعليم في المناطق الأكثر فقرا ومن جهة أخرى رسم خطة لمحو الأمية التي دقت اليونسكو آنذاك ناقوسها حين أصدرت سنة 2011 تقريرا يتضمن أن نسبة الأمة بلغت 50% بموريتانيا، وهذه الأهمية التي اكتسبها التعليم والمركزية التي حظي بها من خلال نص الوثيقة يذكرنا بمواقف فلسفية إصلاحية ثلاث كان لها التأثير الكبير في دفع عجلة الإصلاح في البلدان التي نشطت فيها، وأول هذه المواقف: الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر الذي نادى بضرورة التعليم كنقطة بداية للإصلاح الديني ما جعله يردد عبارته المشهور "ينبغي أن يكون لكل مسيحي إنجيل"، والموقف الثاني في أوربا الحديثة حينما دخل نابليون ألمانيا نادى الفيلسوف فيخته على خلفية الهزيمة النكراء قائلا: لقد خسرنا كل شيء لكن بقي لنا التعليم، والموقف الثالث هو موقف المصلح العلامة عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الإسلامية الجزائرية حيث اعتبر التعليم وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها لمن يريد الإصلاح وبناء الأمم على قيم سامية، ولذلك كان أصحاب الميثاق موفقين حين دعوا إلى التعليم وكانوا أكثر واقية لاستفادتهم من التجارب الإصلاحية عبر التاريخ التي سبقتهم.
كما نادت الوثيقة بدمج حقوق الإنسان في كافة البرامج الهادفة سبيلا إلى تثقيف الناس بضرورة زوال الظلم من أجل خلق قطيعة مع المجتمع الإقطاعي وفضح استراتيجيات التهميش البائدة لخلق الظروف الملائمة للنهوض.
والأمر الأخير و الأساسي في الوثيقة هو دعوتها إلى إقامة حوار عقائدي كبير تشارك فيه كافة مدارس الفكر الإسلامي حول الخطاب الديني المتعلق بالعبودية ، وهذا الطرح بدوره هو امتداد لفكرة فلسفية نادى بها فيلسوف القرآن محمد إقبال حين قال إن الاجتهاد بات ضرورة في كل القضايا العصرية الشائكة لكنه الاجتهاد العصري التي تشترك فيه كل القوى الفكرية ولا يترك لمجموعة من الفقهاء منعزلة لوحدها (الاجتهاد المركب).
وباختصار يمكننا القول أن ميثاق الحراطين كان مشروعا إصلاحيا شاملا وإن كان قد عصفت به السياسة وتجاذباتها وأجهضه تباطؤ الدولة في التعامل معه بوصفه إستراتيجية جاهزة للتطبيق، ولكن رغم ذلك يبقى مشروعا سوسيو سياسيا قابلا للتطبيق ولو خارج الإطار المؤسس له في البداية.