يشكل نشاط المجتمع المدني مساهمة قيمة في التمكين والنضج السياسي النخبوي والجماهيري؛ كما يلعب قادته وفاعلوه دورا حيويا في شكل التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها الدولة الحديثة بالعالم العربي.
ويلعب فاعلوا المجتمع المدني دور الوسيط الواعي بين الدولة ككيان سياسي والمجتمع كحاضن للحرية والحقوق الإنسانية والعدالة الاجتماعية وغيرها من المكاسب التي باتت مطلبا جماهيريا تعتبر كيانات المجتمع المدني باختصاصاتها أحد أهم مقوماته.
إن فاعلي المجتمع المدني ظلوا دائما القوة الحية والخيط الناظم لحياة سياسية دون تسييس أفرادها والضامن لصيانة حقوق الأفراد والجماعات في وجه هيمنة الدولة البوليسية التي عرفها العالم العربي لغاية ما بعد مرحلة التحول على مستوى الديمقراطية والحرية.
وفي سياق تجذير نشاط فاعلي المجتمع المدني عبر استقلاليته عن الدولة ومؤسساتها التي ما فتئت تمارس دور الرقيب على المجتمع المدني وأنشطته ومؤسساته؛ بل وتتعامل معه ـــ أحيانا ـــ كمعطى وافد وكأحد مخرجات الحداثة الغربية؛ حيث تطور هذا المفهوم ليبرز في نظر البعض كما لو أنه إطار جديد عرفته البشرية فجأة جراء أمواج الحداثة الوافدة من الغرب.
وعوضا عن الجدل الذي ما فتئ يثيره موضوع المجتمع المدني وعديد الإشكالات ذات الصلة بعلاقته بالدولة ككيان سياسي وبالديمقراطية كممارسة وتراكم نضالي وما تثيره أجواء الحرية التي تواجه مزيدا من التحديات رغم التحولات الأخيرة بعالمنا العربي إثر موجة الربيع العربي وتنامي ما بات يعرف بالموجة الثالثة من الديمقراطية التي أخذت تنتعش بدول العالم الثالث.
ونتيجة لتطور الدولة الحديثة وكذا نوع وشكل العلاقات المتنامية بينها وبين المجتمع؛ تبرز جدلية المجتمع المدني ورهاناته في استحقاق قيم الحرية والديمقراطية بالعالم العربي أو بمعنى أدق ما هي المتطلبات التي على مؤسسات وهيئات المجتمع المدني القيام بها لاستحقاق الديمقراطية والحرية؟.
وفي ضوء ذلك نستعرض أهم المبادرات المناطة بمؤسسات المجتمع المدني المعاصر بعالمنا العربي بناءا على الآمال التي باتت معودة أكثر عليها لتعزيز دورها وللوقوف على أهم الرهانات التي من الممكن أن يقدمها لتمكين الحرية والديمقراطية في محاولة للنهوض بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها الدول والمجتمعات والتي من أبرزها :
1 ـ تمكين المجتمع المدني
بما أن هيئات المجتمع المدني لا تنتعش إلا في مجتمع تسوده الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وهي مقومات غير متحققة كلية بعالمنا العربي فإنه من باب الأولية العناية بتمكين هيئات ومؤسسات المجتمع المدني الناشطة بالوطن العربي؛ وكذا الفاعلين والقادة الاجتماعيين المناط بهم القيام بمبادرات فاعلة في مجال تكريس الحرية والديمقراطية بعالمنا العربي كخطوات إجرائية في سبيل حماية وتعزيز الحق في حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي الذي يعتبر البيئة الخصبة ونقطة الجذب لمجتمع مدني فاعل ومؤثر.
ولتحقيق هذه الغاية التي تعتبر أولوية على طريق استحقاق الحرية والديمقراطية فإنه على هيئات المجتمع المدني الضغط بشأن وضع إستراتيجيات وطنية خاصة لتأهيل وتدريب وزيادة فاعلية مؤسسات المجتمع المدني على كافة الأصعدة المالية والإدارية والفنية والتقنية وكذا البشرية.
كما ستساعد هذه التحسينات في زيادة فاعلية القوى المجتمعية على تعبئة العناصر الاجتماعية الفاعلة وغير الفاعلية سواء تعلق الأمر بزيادة مشاركة المرأة ودمج العناصر غير الفاعلة وجلبها إلى ميادين العمل الجمعوي ومضاعفة الحشد حيال القضايا الكبرى التي تشكل رهان التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذا الثقافية.
2 ـ حرية التعبير
يعتبر إحراز فاعلية في الأداء الشعبي في ظل تنامي العزوف عن الانخراط السياسي من قبل جل المواطنين كحق أصيل لكل مواطن مسالة أساسية لترشيد ما هو متاح من حريات على أمل رفع سقفها بعالمنا العربي؛ مع صيانة الحيز العام المتاح للتعبير الحر عن الآراء السياسية وسط حالة من استلهام التكنولوجيا المعاصرة بالدول التي شهدت قفزات نوعية في مجال الحريات مع مراعاة الفوارق الجوهرية المميزة لكل إقليم عن غيره.
ويعتبر حفز مشاركة المواطن لبلوغ درجة التحلي بالمسؤولية لاختيار شكل الحرية التي يريدها والتي تضمن له الممارسة الحقيقة لحقوقه كمواطن في بلده لا كذمي وكذا المستقبل الذي يرضاه لذلك البلد الذي هو وطن في نهاية المطاف.
وتلعب مبادرة مجتمعية في هذا المجال دورا حيويا في مجال الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي نحن في أمس الحاجة إلى الإسراع إليها لتحقيق قفزات نوعية في مجال حرية التعبير بوصفه أحد رهانات مجتمع حر تنتعش فيه الديمقراطية ويسود فيه القانون الذي ترعاه وتضغط بشأنه كل الهيئات المجتمعية؛ سواء العاملة في مجال الحرية وحقوق الإنسان أو حرية التعبير والإعلام أو التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغير ها من القطاعات الحيوية التي انسحبت من أغلبها.
3 ـ تمكين الديمقراطية
إن تعزيز القيم الديمقراطية وإشاعة الثقافة المدنية والمساهمة في نشر المعلومات وتمكين وصول الأفراد إليها وكذا الإسهام في التواصل والتعاطي والحوار بين الأفراد والجماعات الاجتماعية المتنافرة؛ إن على أساس المعتقد أو الديانة أو اللغة أو الإثنيات وكذا وضع بنية عملية للإصلاح الاقتصادي والسياسي؛ تعزيزا وتطويرا للتكامل والتبادل بين الدولة ككيان سياسي والمجتمع كإطار حاضن لمخرجاتها كلها متطلبات من الأهمية بمكان أن تسارع هيئات ومؤسسات المجتمع المدني وكذا الناشطين وقادة المؤسسات الأهلية؛ إلى إنجاحها كمساعي حيوية وذات صلة بمضامين ديمقراطية تفضي إلى دمقرطة الدولة سيرا في أفق ديمقراطية شعبية تستمد قوتها من الواقع المعاش والمعبرة عن خيارات الأفراد وميولهم السياسية في بلد يحكمه القانون وتسوده العدالة والمساواة.
وجدير بالذكر أن مسألة تمكين الديمقراطية هي جزء لا ينفصل عن عملية التعبئة السياسية التي تنتظر مبادرات مجتمعية فاعلة ونشطة لوضع البلدان بعالمنا العربي على بداية طريق التغيير والحراك في سبيل غد أفضل.
4 ـ الممارسة السياسية
هناك حاجة ماسة إلى أن يأخذ شكل وعلاقة المجتمع المدني ونشطائه بالدولة ومؤسساتها الاحتوائية مسارات وطرق تعامل جديدة تقوم على التطوع والممارسة الإدارية بدل الممارسة السياسة والفعاليات الثقافية والفكرية التي تشكل جوهر العمل السياسي لدى معظم الأنظمة القائمة.
هذه الجهود التي من المفترض أن تستقطب اهتمام هيئات ومؤسسات المجتمع المدني كحوافز لاستحقاق الحرية والديمقراطية ستسهم في توسيع دائرة الثقافة السياسية وكذا مستوى الوعي والنضج السياسي لدى الأفراد والجماعات مما سينعكس إيجابا على شكل العلاقة السلبية بين النخبة السياسية والمواطن العادي؛ الأمر الذي سيعطي مفهوما جديدا للممارسة السياسية بعديد دول عالمنا العربي.
إن الممارسة السياسية بعالمنا العربي لا تزال حكرا على نسب قليلة من نخبنا ذات الخصوصية البيروقراطية وهي من أكبر المعضلات التي يواجهها مفهوم الوعي السياسي بعالمنا العربي.
ينضاف إلى ذلك تراجع نضج المواطنين غير المتجاوبين مع الممارسات السياسية وكذا مراقبة ومحاسبة القائمين على الشأن العام وهي أدوار مجتمعية تظل في أمس الحاجة إلى من يوجه عناية المواطنين إليها وسط حالة الخمول والجمود السياسي واللامبالاة التي تسود الشارع العربي المحبط من العملية السياسية وكذا العديد من الوجوه والنخب السياسية التي باتت أكثر من مألوفة بالنسبة للشعوب العربية؛ إلى جانب سلبيتها حيال التحديات التي يواجهها بسطاء المواطنون على عموم البلدان العربية؛ شبه المنكوبة سياسيا.
5 ـ نقص التشريعات
إن التطبيق العملي لقوانين حماية الحرية والحق في التعبير بأغلب البلدان العربية التي شهدت حركة الربيع كشفت مدى تغافل تلك القوانين والتشريعات الوطنية عن الانتهاكات الخطيرة التي واجهها المتظاهرون والمعتصمون في كل من تونس ومصر وليبيا؛ حيث برز مستوى الإفراط الشديد في استخدام القوة والعنف والوحشية خلال التعاطي الأمني مع المتظاهرين المسالمين؛ ما افرز قوانين ومعايير جديدة خلقت حالة طوارئ مستمرة وحذر تجوال وتقييد حرية الإفراد للالتفاف على الحق في حرية التعبير والتظاهر.
هذه جملة تحديات وإخفاقات خطيرة على مستوى المنظومات القانونية السارية المفعول بأغلب بلداننا العربية؛ ما يتطلب تدخلا فوريا وحاسما من قبل هيئات ومؤسسات المجتمع المدني وذلك بهدف تعزيز الحق في حرية الرأي والتعبير والتجمع السلميين كمخرجات لاستتباب الحرية والديمقراطية على نحو فعاليات حية وموجهة للحكومات وأجهزتها الأمنية؛ إلى جانب الاستعانة بجميع القوى الحية الفاعلة بالبلدان العربية.
6 ـ تفعيل قوانين الدعم الأممي
عدى عن أهمية التشبيك الواسع بين هيئات ومؤسسات المجتمع المدني بالعالم العربي مع غيرها من شبكات المجتمع المدني الدولية والإقليمية ذات الأهداف المشتركة كخطوة أولى للإطلاع على تجاربها وللمشاركة المباشرة في أفضل الممارسات وتبادل الخبرات والتجارب والتجاوب مع التطورات الحاصلة في هذا المجال في خطوة تالية.
بيد أنه من الأهمية بمكان خلق مبادرات مجتمعية رائدة في مجال تفعيل الآليات التعاهدية الأممية لحقوق الإنسان وحرية التعبير وتكريس قيم الديمقراطية التشاركية مسنودة بالمعاهدات الأممية لحقوق الإنسان ولجنة العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولجنة مناهضة التعذيب ولجنة سيداوى ولجنة القضاء على كافة أشكال التمييز العنصري.
هذا بالإضافة إلى هيئة المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان واللجنة العربية لحقوق الإنسان في جامعة الدول العربية وهي كلها هيئات أممية لتقديم الدعم والمساندة القانونية والوجستية لفعالي المجتمع المدني بعالمنا العربي للإطلاع بدور أكبر حيال استحقاق الحرية والديمقراطية عبر الاستلهام أنجع السبل والآليات لتحقيق ذلك.
***
وفي الأخير تنبغي الإشارة إلى أبرز المعوقات التي لا تزال تكبل فاعلي وقادة المجتمع المدني كغياب رؤيا أو خارطة طريق موحدة وغياب مصادر تمويل حرة تشكل بديلا عن التمويل الدولي وكذا إشكاليات الإطار التشريعي الناظم لنشاطات منظمات المجتمع المدني التي تتم مصادرة تراخيصها وحلها دون اللجوء للقضاء؛ هذا بالإضافة لهشاشة الوعي الشعبي بأهمية نشاط المجتمع المدني والثقافة المجتمعية المكرسة لذلك الوعي