على الحدود مع الجارة مالي، وبالتحديد على بعد 18 جنوب مدينة كوبني عاصمة المقاطعة، و 128 كلم جنوب العيون عاصمة ولاية الحوض الغربي، تقبع قرية "گوگي الزمال" عاصمة البلدية الريفية كوكي، التي تتبع لها أكثر من 50 قُرية، ويقسمها الطريق المعبد إلى قسمين: القسم الغربي الذي يضم أقلية من السكان، وتنعدم فيه البنى التحتية تقريبا، أما القسم الشرقي فهو الذي يضم غالبية سكان هذه القرية، كما يأوي المنشآت القليلة التي تضمها هذه القرية الحدودية.
الثالوث المَقيت: الجهل...الفقر ...المرض
يلاحظ الزائر لهذه القرية أن ساكنتها من الفئات الهشة، والطبقات المستضعفة وأنها تعتمد على هذه الدولة المجاورة أكثر من اعتمادها على الدولة التي تحمل جنسيتها، فمنها تستورد المواد، وفيها يتم التداوي، ومنها يتم، أحيانا، جلب المياه الصالحة للشرب، وعبر شبكتها يتم الاتصال. ولكن اللافت للإنتباه أكثر، هو تفشي ظاهرة الأمية الأبجدية بين صفوف الساكنة، سواء تعلق الأمر بالكبار وحتى الأطفال، وربما كانت رداءة الخدمات التعليمية وراء هذه الظاهرة الخطيرة والتي تكاد تعصف بوجود هذه القرية.
هناك مدرسة ابتدائية مكتملة يتم بناؤها الآن وهي في مراحلها النهائية، بعد أن كانت فقط 3 حجرات اسمنتية، يقوم عليها ثلاثة معلمين، كما أن هناك غيابا كليا للرقابة على هذا القطاع من طرف القائمين عليه، ومن طرف السلطات المحلية والفاعلين المحليين وعدم إدراك أهمية التعليم من طرف الساكنة عموما، فقد يتغيب المعلم، لمدة طويلة، دون معرفة سبب ذلك، أو دون وجود مبرر مقبول منطقيا.
المحاظر هي الأخرى، ولا ينبؤك مثل خبير، شبه غائبة، رغم ما يوليه أهل القرية من أهمية واعتبار لها ولكل من يقوم على تعليم القرآن والعلوم الدينية، فمعلم القرآن أو العلوم الدينية أو "الطالب"، كما يطلق عليه محليا، يحظى بالكثير من الاحترام والتقدير والإجلال والإكرام، إلى حد التقديس، الشيء الذي جعل البعض يستغل ذلك من أجل الكسب المادي، فعلى كل تلميذ أن يدفع مبلغ 500 أوقية شهريا، ويدفع ملئ كف من الزرع أو اللوبيا أو غيرها من المنتجات الزراعية المحلية، وحتى مسحوق السكر، كل يوم اثنين وأربعاء للمدرس !! وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد من الإجحاف بهؤلاء المعدمين، بل إن هذا "الطالب" يقوم باستغلال الأطفال في أعمال شاقة، قد لا يقدرون عليها، وقد يصاب بعضهم بالإغماء من الإجهاد، فهم يحتطبون وهم من يتولى جلب المياه الشروبة من البئر أو الحنفية وغير ذلك من الأعمال الشاقة، وما لا يمكن تصوره أن هذا "الطالب" غالبا ما لا يستطيع أن يكمل التهجية فقط لأحد تلامذته خلال 2 أو 3 سنوات ؟! فكم يا ترى من الوقت سيستغرق حفظ بعض سور أو أحزاب من القرآن الكريم؟ فهذا يعني أن عليه أن يقضي عدة سنوات من الأعمال الشاقة، قبل أن تستدعيه أسرته لمساعدتها في متاعب الحياة الجمة، بعد أن يكون قد فاته قطار التعليم إلى غير رجعة.
كان هناك مسجد واحد في هذه القرية، قبل أن تقوم الوكالة الوطنية لمحاربة مخلفات الرق والدمج ومكافحة الفقر بالشروع في بناء مسجد جديد، وإن كان هناك من أعيان المدينة من يُحَرِم الصلاة في المسجد العتيق، بحجة أنه بني في أرض مغصوبة أو موروثة ولم يتم تقسيمها، رغم أن هناك من الفقهاء، في جمهورية مالي، من أفتى بجواز الصلاة في هذا المسجد للضرورة، لكن هناك من المصلين من ينتظر فتوى من فقهاء الجمهورية الإسلامية الموريتانية !؟
قد تستغربون إذا قلت لكم أن أهالي هذه القرية يغَسلون موتاهم تحت الأشجار! لأنه ببساطة لا وجود لمكان مخصص للغسل. المقبرة، هي الأخرى، ليست أحسن حالا، فهي عبارة عن مساحة غير مسيجة مخصصة للدفن، ولا توجد بها علامة تدل على ذلك، وأهل القرية وحدهم هم من يستطيعون أن يرشدوك إليها، حيث يوجد بها جانب مخصص للنساء وآخر للرجال.
تعيش ساكنة هذه القرية الحدودية على المصادر التقليدية مثل الزراعة الموسمية التي تنحصر في زراعة المنطقة المشتركة بين الماليين والموريتانيين والمعروفة باسم "كتَوَلْ"، ولا تمثل التنمية الحيوانية مصدرا يذكر، ولكن هناك عائدات السوق الأسبوعي "سوق الأربعاء" الذي تتم فيه المقايضة بين المنتجات الزراعية وبعض المواد الغذائية الضرورية، كما يتنقل المواطنون لحضور "سوق الإثنين" في گوگي مالي والذي يبعد أقل من كيلومتر، كما كانت هناك عائدات معتبرة لليد العاملة في دولة ساحل العاج، قبل عودتها في بداية سنة 2011 إثر المشاكل التي تعاني منها تلك الدولة، مما كان له تأثير كبير على دخل بعض الأسر في هذه القرية النائية. هناك مصدر آخر يتمثل في نقل الأمتعة، بالتناوب مع الماليين، عبر عربات الحمير من باص لشركة "سونف" من النقطة الحدودية في موريتانيا إلى النقطة الحدودية في مالي، هذه المصادر محدودة المردودية، وبالكاد تغطي المصروفات الضرورية لبعض الأسر، ليبقى الفقر سيد الموقف.
قطاع الصحة في هذه القرية، هو الآخر، ليس أحسن حالا من سابقيه، فقد يولد الطفل خارج الرعاية الصحية ودون شهادة حياة، ويدفن الشخص دون شهادة وفاة طبية، فالمركز الصحي الوحيد، الذي كان يشرف عليه الممرض الشعبي المدعو: جبريل، يقوم بعلاج المرضى، وخاصة من حمى الملاريا، المنتشرة في فترة الخريف في هذه المنطقة، والأمراض الناجمة عن المجاعة وسوء التغذية، خاصة بالنسبة للنساء والأطفال. لكن مراجعي هذا المركز يشكون ارتفاع سعر الأدوية، التي يقولون أنها، لا تأخذ أوضاعهم المادية في الاعتبار، مما جعلها عقبة في وجه الكثير من مرتادي هذا المركز الصحي، وإن كانوا مجمعين على تعاون الممرض الذي تم تحويله عنهم، وذلك بقرضه لهم العلاجات أسبوعيا، حتى يحصلوا على عائدات سوق "صوگ الأربعاء"، الشيء الذي لم يقم به زميله المعين حديثا !؟ أما النساء يعتمدن على الدواء في هذا المركز الصحي على الممرضة "سلمى" التي تتولى علاجهن غالبا، وإن كن يعتبرن سكنها في كوبني، على بعد 18 كلم، عائقا يحول دون حضورها الدائم وفي الوقت المناسب؛ هذه الوضعية حدت بالكثير من هذه الساكنة إلى الاعتماد على المرافق الصحية في جمهورية مالي، حيث الخبرة أكثر، والكلفة أقل، كما يدعي مراجعوا تلك المرافق الصحية.
قليل من القراء من سمع، قطعا، بمرض يسمى "مرض كدِّوار"!؟ إنه مرض مستورد من ساحل العاج أو "كدوار Côte d’Ivoire"، وهو في الحقيقة ليس سوى وباء "السيدا" أو "الأيدز" حيث عرفته هذه القرية عبر جاليتها المقيمة في تلك الدولة الإفريقية، فكانت تلك الضريبة الباهظة للغربة.
ولا يعني هذا البتة أن السبب الوحيد لهذا المرض هو تلك الجالية، فهذه القرية الحدودية قبلة للكثير من الزوار، وخاصة أصحاب السيارات الخصوصية وأصحاب النفوذ والنافذين والمتنفذين وحتى السلطات المحلية، ونظرا لهشاشة البنية الاجتماعية لقرية كهذه، فهي معرضة لاستغلال ظروفها المادية من طرف الجميع ... فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبري.
مياه الشرب بنكهة سياسية !
لا أريد هنا أن أتدخل في خصوصيات هذه القرية، نظرا لحساسية الموضوع، لدى الكثيرين، لكن أعتقد أن بلدية تسجل قرابة 4000 ناخب، تستحق أكثر مما هي فيه الآن، ولابد من الإشارة إلى أنه بعد وفاة عميد عمد بلديات الحوض الغربي، المرحوم: احسيني ولد مامينَّ، منذ سنتين تقريبا، فقدت هذه المدينة شخصية مركزية وازنة كانت تمسك العصا من الوسط دائما، وهي محط إجماع الكثيرين، لكن ما إن غابت هذه الشخصية حتى برزت أولى المشاكل والخلافات على تسيير حنفية مياه الشرب، التي تستعمل مضخة بالمازوت، قبل أن تصبح شبكة لها عدة توصيلات وتعمل بالطاقة الشمسية، والتي تبيع وعاء 20 لتر بمبلغ 10 أواق، وهو سعر مناسب للمواطنين، وإن تطلَّب منهم ذلك السير أكثر من نصف كيلو متر أحيانا، وعبور الطريق المعبد الذي يقسم القرية إلى شطرين، شرقي: وهو مركز المدينة وبه هذه الشبكة وغيرها من المنشآت، بينما يفتقر الشطر الغربي إلى كل تلك المرافق.
ويتولى أحد أعيان المدينة تسيير هذه الشبكة، الشيء الذي نجم عنه خلاف حاد بينه والبلدية، التي تعتبر تسيير هذه المنشأة من صميم المهام المسندة إليها، وقد أدت هذه الوضعية إلى قطع الإمداد عن البلدية وبعض الساكنة، بعد أن رفضوا تسديد فاتورة صادرة عن المسير، واعتبارها غير مؤسسة على الاستهلاك الحقيقي لهؤلاء، وكادت هذه الوضعية أن تعصف بهذه الشبكة، التي لم تصدق هذه الساكنة أنها حصلت عليها لتضع حدا لمعاناة مياه الآبار الملوثة، بل واللجوء أحيانا إلى جلب المياه من داخل الأراضي المالية؛ فمتى سيتم حل هذه المشكلة لتنعم هذه الساكنة بإمداد منتظم بالمياه الشروبة وبأسعار مناسبة بعيدا عن التجاذبات السياسية والمصالح الضيقة؟
ولأن الساكنة لم تحصل على المياه الشروبة بصورة منتظمة ومستديمة، فمن غير الموضوعي أن نتحدث عن الطاقة الكهربائية أو الشمسية، فبالكاد تشع خمس إنارات ليلية تعمل بالطاقة الشمسية، أما بقية القرية فلم ترى النور مطلقا منذ إنشائها وحتى الآن، بل هل يحق لها أن تحلم به ؟ وهي المدينة الحدودية التي يجتازها ليلا ونهارا مئات المسافرين، ذووا الأغلبية الأجنبية، ليحكموا على بلدنا من خلال هذا المدخل.
أخيرا، أرى أنه من الضروري أن نشير بإيجاز إلى ما تصبوا وتطمح له هذه الساكنة، وهو ما نرى أنه طموح مشروع، في توفير وسائل العيش الكريمة، عبر خلق مناخ ملائم للتنمية المحلية، ولن يكون ذلك إلا بدعم القطاعات الأساسية التالية:
أولا: قطاع التعليم الذي يجب أن يتم تفعيله ودعمه، بالتعاون مع السلطات المحلية والفاعلين والنافذين، حتى ييتم منح الأهمية القصوى لتعليم الأطفال، وتوعية الساكنة حول أهمية تمدرس البنات؛
ثانيا: قطاع التعليم الأصلي، والمهمل والمغيب من الجانب الرسمي، رغم الأهمية التي يحظى بها من طرف هذه الساكنة، حيث يجب توفير مقر للمحظرة ومدرسين وأئمة، وأعتقد أن أي زيالرة يقوم بها مسؤولوا هذا القطاع ستكون كفيلة بتقييم احتياجات هذه القرية مما يقيم شأن دينها؛
ثالثا: أعتقد أن على القطاعات التالية: مفوضية الأمن الغذائي والوكالة الوطنية لمحاربة مخلفات الرق والدمج ومكافحة الفقر، و برنامج مكافحة الفقر على مستوى المناطق الحدودية المعروف اختصارا ببرنامج "لحدادة"، أن يقوموا بتدخل ملموس وعاجل لصالح هذه القرية المنسية، من طرف الكثير من المتدخلين الوطنيين والدوليين.
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.
محمد لحبيب ولد احمدناه
مدرس للقرآن بقرية گوگي الزمال