لحراطين هم السود الناطقين بالحسانية كلغة أم، وهم أصلا مزيج بين بقايا الأتيوبيين الذين عمروا هذه البلاد في القرن الرابع قبل البلاد ، والبافور الذين أشارت الدراسات التاريخية إلى وجودهم في المنطقة قبل قرون ، فضلا عن الزنوج الذين تم استعبادهم من قبل البربر و أولائك الذين عايشوا المجتمع الناطق بالحسانية بعد سيطرة بني حسان على البلاد في القرن 17 .
تعرض لحراطين عبر قرون للكثير من الاضطهاد على يد المجموعات التي تقاسمت سيطرة البلاد (الزوايا وبني حسان) ، وعلى الرغم من مرور ستة عقود على إعلان الاستقلال في موريتانيا، فإن شيئا كبيرا لم يتغير على واقع هذه المكونة .
ترفض الدولة الموريتانية منذ قيامها أي إحصاء على أساس إثني، وبلا شك فإن البيظان المسيطرين سياسيا على البلد يحتاجون شرعية ديمغرافية تدعم هذه السيطرة ، وهذه الشرعية الديمغرافية بدورها تحتاج احتواء لحراطين واعتبارهم جزءا من البيظان (اسمينْ بيّ و اعليّ) ، الشيء الذي رفضه لحراطين في أول صرخة نضالية لهم مع حركة الحر قبل أربعة عقود
وعلى الرغم من عدم وجود إحصاء رسمي فإن لحراطين في موريتانيا يشكلون أغلبية السكان ، سواء كانت تلك الأغلبية نسبية (45% حسب بعض المراكز البحثية "معهد كارنيغي" ، أو40% حسب وثائق أعدها مقررون أمميون "فليب آلستون : مقرر الأمم المتحدة الخاص بالفقر المدقع في زيارته لموريتانيا سنة 2017 مثلا ، أو هي أغلبية مطلقة حسب بعض النشطاء والتنظيمات 53% وفق رسالة الساموري ولد بي إلى الأمين العام للأمم المتحدة سنة 2010) .
ومع هذا الحجم الديمغرافي للحراطين في البلد فإن واقعهم السياسي والإقتصادي والإجتماعي في ظل وجود الدولة خاضع للتكييف والتزييف والاستغلال السياسي ليظل قادرا على تضليل المجتمع الدولي وملتفا على الاتفاقيات الموقعة معه ، وكذا لاحتواء نسبة الوعي في صفوف أبناء هذه المكونة التي تعاني انتهاكات على كل الصعد .
فعلى الرغم من إقرار العدالة والمساواة بين أفراد الشعب ، ورفض أي تمييز على أساس اللون أو العرق أو اللغة ، في الدستور وكل قوانين الجمهورية ، فإن مثل هذه التشريعات ظلت حبيسة الأوراق ، وفي الواقع شيء آخر .
لقد برر الرئيس الراحل المختار ولد داداه عدم إمكانية حل مشكل الاستعباد بعدم قدرته على مواجهة الزعامات الدينية والقبلية المحيطة به ، والتي ترى في القضاء على هذا الاستعباد تهديدا لمصالحها ، كما أن العبيد ساعتها لم يكن لديهم مستوى الوعي الكافي لدعمه ، إلا أن تعميمات نظامه تؤكد أنه لم يملك الشجاعة أو القناعة أو هما معا لإعلان موقف إيجابي لصالح العبيد وأن حكومته تعاملت مع ملف الاستعباد بذات الطريقة التي كان ينتهجها المستعمر حيث كانت تنظر إلى العبيد باعتبارهم وسيلة للإنتاج لا كمواطنين ، مما جعل موريتانيا تنتظر 21 سنة من وجود الدولة لتصدر أول قانون يلغي الاستعباد مع ما يترتب على هذا القانون من مآخذ .
وفي سنة 2007 تم تجريم هذه الظاهرة قبل أن يتم تغليظ العقوبات المترتبة على ممارستها سنة 2015 ، كما أنشأت الدولة محاكم خاصة بالرق ، إلا أنه مع ذلك كله ومع وجود عشرات ملفات الاستعباد في أروقة القضاء فإن حالة واحدة لم تنفذ ضد ممارسها العقوبة المنصوص عليها في القانون .
إن سياسة التعاطي مع الاستعباد لم تتوقف عند هذا الحد بل إن ملفه ظل مصدر استرزاق وتراض مع الدولة يستخدم في تمكين شيوخ القبائل والزعامات التقليدية للتحكم في رقاب ومصير لحراطين الذين باتوا يستقلون اجتماعيا وسياسيا عن سادتهم التقليديين بحكم واقع التحركات النضالية التي أنتجت رفضا كبيرا للواقع .
لقد حكم المختار ولد داده البلاد زهاء العقدين دون أن ينال حرطاني واحد منصبا سياسيا ، وقد استمر الشيء ذاته تقريبا مع سنوات حكم محمد خونا ولد هيداله ، فيما منح نظام معاوية ولد الطايع لحراطين حقائب وزارية دائمة تتراوح بين واحدة إلى ثلاثة على الأكثر ، وعلى الرغم من الحجم الديمغرافي للحراطين ، والوعي المتزايد في صفوف أفراد هذه المكونة ، ودعوات الانصاف التي تصدح بها حناجر نشطائها في كل المنابر فقد ظلت هذه الحقائب ثابتة بعددها في محاصصة إثنية نصيبهم فيها لا يتجاوز 10% ، وقد حافظ على هذه النسبة كل الذين حكموا بعد ولد الطايع قبل أن تنكسر القاعدة بخجل شديد خلال فترة الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني ، الذي حمل شعار محاربة الغبن ، حيث تضم حكومته الحالية و المتكونة من 24 حقيبة وزارية و أربع أخرى برتبة وزير ، خمسة من لحراطين .
لم تعامل كل الحكومات المتعاقبة على البلد لحراطين باعتبارهم مواطنين لهم حق المشاركة في تسيير بلدهم ، بل على العكس من ذلك ظل الإقصاء عملا متقنا و قاسما مشتركا بين هذه الحكومات ، سواء تعلق الأمر بالمناصب الإدارية أو العسكرية ،أو القضائية ... إلخ
فعلى الرغم من أن عدد لحراطين في الإدارة الإقليمية الحالية يتمثل في ثلاث ولاة من بين 15 وال ، فإن هذه هي المرة الأولى في تاريخ البلد التي يكون فيها عدد لحراطين أكثر من وال في إدارة إقليمية ، وهذا ينطبق على الحكام و القضاة وضباط الجيش والشرطة ورؤساء المصالح وغيرهم ، وقد أكد فيلب آلستون أثناء زيارته لموريتانيا سنة 2017 ، أن البيظان وحدهم يسيطرون على نسبة 80% من الوظائف السامية رغم أنهم يمثلون أقل من ثلث السكان .
وعلى المستوى الإقتصادي لا يحتاج الناظر للمجتمع الموريتاني كبير جهد لملاحظة مدى عمق الهوة بين مكونات الشعب ، وسوء واقع لحراطين ، ورغم ما ترتب على الاستعباد و خروج لحراطين منه متأثرين بفتاوى دينية ، سلبتهم كثير أموالهم وأراضيهم ، و أدت إلى تركهم ثمرة جهود عقود من العمل لدى الاستعباديين ، فإن سياسة التمييز العنصري التي تشرف عليها الدولة ضد لحراطين تركت أثرا جليا في هذا الواقع هو الآخر .
إن غياب مبدأ العقوبة ضد نهب المال العام ، والذي صارت سرقته فرصة لكل من تولى تسيير قطاع من قطاعات الدولة ، فإن رخص الصيد ورخص التنقيب عن المعادن التي توزع مجانا أو تباع بمبلغ رمزي لبعض رجالات مكون البيظان دون غيره ، لعبت هي الأخرى دورا بارزا في الثراء الفاحش لهؤلاء ، هذا فضلا عن منح آلاف الهكتارات الزراعية ومنح قروض الدعم التي لا يسدد أغلبها من طرف المستفيدين منها في ظل صمت مطبق بل و تمالؤ من الدولة ، ناهيك عن الصفقات العمومية التي يشوبها الكثير من التحايل في كل مراحلها : (الدراسة _المناقصة_المصادقة وفي التنفيذ و الإشراف) ، ضف إلى ذلك العمل الباطني الذي أصبح وسيلة للثراء السريع ومشروعا لمص دماء الناس ، حيث يتقاضى رب العمل ملايين الأوقية في حين لا يحصل العامل إلا على فتاة جهده من ذلك العمل، دون أن ننسى منح القطع الأرضية في الأماكن الإستراتجية والتجارية والتي تخول لبائعها جني عائدات مادية كبيرة ومعتبرة ...
وكرد على اتساع جغرافية الوعي في صفوف لحراطين ، وكخطوة استباقية لحتمية التغيير فقد عملت الدولة في السنوات الأخيرة على خلق مدارس خاصة بأبناء البيظان وخاصة النخبة الحاكمة منهم وأصحاب الظروف المادية الجيدة ، وهذه المدارس هي مدارس الامتياز و الثانوية العسكرية ، و مع أنه لا توجد نصوص تمنع غير البيظان من ولوج هذه المدارس إلا السياسة المتبعة في انتقاء تلاميذها تؤكد نهج الفصل العنصري المتبع فيها ، أما التعليم النظامي الذي هو الملجأ الوحيد لأبناء لحراطين فلا يخفى على أي متابع سياسة تدميره ، ففي موريتانيا توجد مدارس حكومية راقية جدا جميع من يدرسون فيها من مكون البيظان ، في المقابل توجد مدارس حكومية بالغة السوء وجميع من يدرس فيها من مكون لحراطين ، هذا مع وضع العديد من العراقيل أمام ولوج عشرات الآلاف من أبناء لحراطين المدرسة وعلى رأس هذه العراقيل الأوراق المدنية ...
لقد بدأت سياسة الفصل العنصري في التعليم تعطي نتائجها حيث خلقت كفاءات أقل ما يقال إنها تكريس مقيت للعنصرية شوهدت ولوحظت في عديد مجالات الحياة.
إن نضال لحراطين ضد هذا الواقع مازال فتيا وغير متلائم مع حجم الاضطهاد لا في قوة طرحه ولا في تنظيم أصحابه، ولا حتى في الإستراتجيات المتبعة له ، غير أن أصوات الرفض باتت في تزايد كبير مما يضعنا أمام احتمالين إثنين وهما التجاوب المتناسب مع الوعي و المطالب ، أو إنفجار باتت كل أسبابه قائمة في محيط جغرافي ملتهب .