بعد مرور سنة كاملة على اختطاف محمد الشيخ ولد مخيطير من قبل الحرس الرئاسي وانزاله في مكان مجهول وبصيغة خارجة على القانون ...يحق لي ان اقدم التحية لقضاة موريتانيا ..ولا اخفيكم انه في كل المرات التي ترافعت فيها حول هذا الملف ورغم الضغوط المهولة التي تعرض لها القضاة فانهم تحلوا وفي كل المراحل بالحد الادنى من احترام القانون.
حين دلفت الى قاعة المحكمة في مثل هذا اليوم من السنة الماضية... وجدتها مكتظة بالمحامين وانصارهم من الغوغاء التي حركتها الحمية القبلية من جهة ... والاجندات الاسترزاقية من جهة اخرى..!
القيت نظرة فاحصة على وجوه القضاة وسرت ببدني قشعريرة عابرة اذ رايت وجوها ترمي بالشرر وتتدلى من اغلبها لحى كثة تشبه في تموجها وطولها وقلة تهذيبها لحى عتاة طالبان.. وقلت لنفسي كان الله في عونك فالحالة الوجدانية لهؤلاء ليست لصالحك ..وتمالكت نفسي ورحت اقاوم صراخ غوغاء النصرة من خلفى وملامح طالبان من امامي.. ولم تكن امامي خيارات كثيرة.. فقد احرقت كل مراكبي.. ونسفت كل الجسور.. ولا مناص من مواجهة الحقيقة.
عند الصدام الاول ..او ما اسميه موجة التبختر الاولى سعيت لأن اكون استفزازيا... بغية قياس ردود افعال رئيس المحكمة... ولمست فيه شيئا من الاستقامة الواضحة..وشيئا من التوازن.. فتوكلت على الله وفجرت قنبلتي والتمست منه طرد ثلة الادعياء ..واردفت بمطالبته بتعزيرهم وحبذا بالجلد مائة جلدة او السجن بضع سنوات لانهم يدعون تمثيل الرسول صلى الله عليه وسلم دون توكيل او ترخيص.. وفي ذلك ما فيه من مزاحمة لاهل الامر وخروج جلي على السلطان في حقوقه الشرعية..!
وقف العميد مختار ولد علي وراح يسطر لي ما كتب الله له من كلام وختم قائلا بفخار امير عتيد : انا لن اقبل ان يفسخنا احد سراويلنا ...
وتبعه نقيب المحامين وكان استعراضيا وقال عبلكات طويلة..تخلط الشريعة بالذريعة.. بالقانون... وتبعهم سيدي المختار ولد سيدي الذي راح يشرح نظريته الغريبة حول كفرية الدولة الموريتانية وفسوق قوانينها ...واللعنة التي ستحل بسكانها ..ثم تبعهم الزعيم ولد همد فال الذي كان اكثرهم واقعية حيث زعم ان الواقعة تسببت بوفاة امه اثر الجرح الوجداني العظيم الذي تركه فيها المقال الملعون وكانت نبرته الحزينة تؤكد ذلك بقوة.. ولعلى لاحظت من قسمات القضاة ميلا اليه وتضامنا معه في محنته فليس اثقل من فقدان الأم ولا أدعى للأسى والحزن.
زمجرت.. وقاطعته دون استئذان.. قائلا له ان امه حية ترزق.. وان هذا محض تهريج.. فأزبد وارعد.. وسرعان ما اكتشفنا ان امه تعبير مجازي يقصد به المرحومة لالة بنت اعلي خدجة وهي جدة اولاده من زيجة سابقة...فرحت أشكك في وجود اي رابط بين وفاة المرحومة لالة وواقعة ولد مخيطير ثم طلبته توكيلا من ورثة المعنية فهو ليس من نسلها ولا من قبيلتها ولا من الحوض الغربي ومجرد زيجة مع حفيدة لها انتهت بطلاق ..فكيف يطلب حقها ؟
وهل سندفع له ديتها اذا تبين ان مخيطير تسبب في وفاتها بكتابته للمقال الملعون ؟
تبين لي وللقضاة انها مجرد حيلة ذكية لتبرير وجوده في الجلسة وهنا وكما سبق واسلفت فقد كان اذكى اللفيف واكثرهم حصافة ففي بواطن كلامه اقرار بضرورة توافر مسوغ قانوني لتبرير الطرفية.. وهي النقطة التي اغفلها غيره.
بعد هرج كبير ومداخلات انفعالية طلب الرئيس رأي المدعي العام فتحدث باستفاضة وقال انه لا يوجد اي سبب يسمح بوجود طرف مدني مزعوم في هذه القضية واستعان بقرار المحكمة العليا ..وفورا قرر الرئيس تعليق الجلسة للتشاور حول هذه النقطة .
خلال انسحاب القضاة تحلقت كوكبة حرس حول المتهم واقتادوه الى غرفة خارج القاعة... ذهبت اليه.. واجلسوه على كرسي خشبي وكنت قدامه على كرسي حديدي بارد ...واحسست بانه يريد ان يدخن لكنه يتحرج بحكم الفارق في السن فناولته سيجارة وقلت له : رغم انني لا اعرفك شخصيا لكنني ما زلت اذكر قصة زواج والدك بوالدتك ..
ابتسم رغم كثافات الكدر المنسكبة على وجهه الحزين.. ولمحت في ابتساماته قسمات جده وجدته وخالته وعمة له توفيت منذ ثلث قرن ...!
سبحان الله وجه اي انسان ليس سوى كشكول من قسمات وجوه آخرين ..وقد كنت اعرف عائلة هذا الولد منذ فتحت عيناي.. فأنا وهذا الولد ننتمي لنفس العشيرة وجدته لامه وجدتي لأمي كذلك من نفس العشيرة ..لا فرق بيننا على الاقل في كنانيش القبائل .
سألني عن قصة زواج والديه وقلت له ان والده كان يحب امه وانهما تزوجا وهو بعد تلميذ بالمدرسة الادراية وعاشا في غرفة مؤجرة باقصى سنكييم خلال فترة تصوره وانني كنت ازورهما احيانا ولم اتخيل قطعا ان من تلك الغرفة سيخرج هذا المخلوق الذي سيعقد حياتي ايما تعقيد.
طلبني العساكر بالخروج ..فعدت الى مكاني ..وتذكرت جدة المتهم وكيف عالجتني من رهاب الظلمة وضحكت كثيرا منها ومن علاجها ..وبينما انا اضحك لوحدي لاحظت ان وجوه المحامين تبحلق نحوي وتتفرسني ايما تفرس بل لعلي سمعت احد الجمهور يقول لقد جن ولد امين ؟
لا اعرف لماذا تذكرت زينب بنت ادويشلي ذلك الصباح الذي اصابتني فيه نوبة ضحك غير مفهوم لذلك ساروي لكم علاجها لي لعلكم تتفهمون ما حدث : لقد كنت العب مع اولاد مخيطير كثيرا في صباي.. وكنت في الثامنة.. وككل ابناء المدن لا اعرف الظلمة المطبقة التي تحل بغتة بعد صلاة المغرب في الليالي الظلماء فقد تعودت على الشوارع المنارة وحدث في صيف 1977او 1978 ان اخذتني الظلمة على حين غرة عند اهل المخيطير ببيتهم بدشرة كرو.. فطلبت من ابنائهم مرافقتي كي اعود لاهلي فرفضوا فطلبت من امهم ان تأمر ابنها الحسن او ابنها امبي ان يرافقني الى البيت لانني اخاف من المشي في الظلام.. فضحكت بسخرية لاذعة وقالت لي : اخوخ بويا انفظحت ادور يرجلك امعلم ؟
ثم ساندها زوجها وكان بعد على سجادة الصلاة : هذا لاهي نستروك بيها يغير لا يسمع بيها احد...هذا الي قلت فضيحة ..!
فتوكلت على الله ...ووقفت ومشيت نحو بيتنا لوحدي كي لا افضح ويقال انني جبان يخاف المشي في الظلمة !
قبل عودة القضاة بلحظات قليلة اقترب مني شخص غريب الاطوار وربت بيده على منكبي وقال بنبرة غير مهذبة : تمونك القاضي ماهو لاهي يصوع المحامين !
سألته عن نفسه فقال انه الحسن ولد الشبيه المنسق العام للنصرة وتبينت من قسماته انه شخص اخرق فقلت له كي اقطع الجدل معه : بويا يعملو !
عاد القضاة ونطقوا.. بقرار صقيل.. انيق.. مؤسس على بينات قانونية جلية واسانيد شرعية واضحة.. ويخلص الى ان المحامين ليسوا طرفا مدنيا في هذه القضية وتكرم الرئيس بالقول ان من يريد البقاء هنا كمتفرج فلا مانع لديه.
هاجت القاعة وراح هذا يشتم القضاة وزايد ذلك ..وامر الرئيس باعتقال احدهم ..وعلق الجلسة وذهب النقيب ليتباحث معه واعتذروا عن التمثيلية وخرجوا من القاعة ليبحثوا عن قاعة لعقد مؤتمر صحفي فقد تعودوا على التعاطي الاعلامي ...ورغم انهم امتنعوا جميعا عن تهنئتي كما تقول اعراف وتقاليد المحاماة فقد شيعتهم الى بوابة الخروج لاستمتع بمشاهدتهم يخرجون وهم يجررون اذيال الهزيمة ..والخيبة ...والاندحار.
كم كان صباحا جميلا.
أسعد الله صباحاتكم..