يمكن صياغة الإشكالية التي سنحاول معالجتها في مقترحات الإصلاح التي سنقدمها على النحو التالي :
ما السبيل إلى إصلاح منظومتنا التعليمية الوطنية وجعلها تساهم في خلق شروط المجتمع المتجانس، المعتز بأصالته وتنوعه، القوي بانتمائه إلى الحداثة والمعاصرة، المسلح بالعلم والتكنولوجيا لمواجهة التحديات التنموية في القرن الواحد والعشرين ؟
يتكون مشروع الإصلاح المقترح من خمسة محاور هي: التعليم ما قبل المدرسي - التعليم الأساسي والثانوي - التعليم العالي - التعليم الأصلي - التعليم الخاص.
ويقوم المنهج الذي اتبعناه في عرض مكونات المشروع على استعراض الأهداف أولا وتحديد الإجراءات والحلول العملية بعد ذلك ثم اقتراح بعض الإجراءات المؤقتة لتسيير المرحلة الانتقالية الفاصلة بين البدء في تطبيق الإصلاحات المقترحة وبين اكتمال النتائج المرجوة منها.
لكن قبل الشروع في عرض مكونات المشروع لا بد أن نستعرض باعتماد أسلوب البرقيات أهم المشكلات التي تعاني منها المنظومة التربوية الوطنية وحصرها في ثماني عشرة نقطة قابلة للزيادة وذلك على النحو التالي:
□ انعدام سياسات تخطيط واضحة ترسم الأهداف وتحدد أولويات التكوين في ضوء الحاجات التنموية للبلد على المدى البعيد
□ ضعف التنسيق والتكامل بين الأنظمة التعليمية المختلفة (الأصلي والحديث، العام والخاص) من جهة؛ وبين مراحل التعليم النظامي ذاته (التعليم ما قبل المدرسي والتعليم الأساسي والثانوي والتعليم العالي) من جهة أخرى: وهذه المشكلة كما هو واضح تعود إلى غياب سياسة عامة موحدة للتعليم في بلادنا.
□ بنية تحتية تعليمية متهالكة في معظمها وغير مكتملة من الناحيتين الكمية والكيفية (في جميع مستويات التعليم) ولا تستجيب للحد الأدنى من متطلبات الجودة والأمن.
□ أطفال لم يعرفوا طريق المدرسة يوما في حياتهم.
□ انعدام إطار تشريعي وتنظيمي ملائم للتعليم ما قبل المدرسي (l’enseignement préscolaire) في الوزارة المكلفة بالتربية والتعليم يجعله في قائمة الأولويات.
□ مؤسسات تكوين للمكونين غير ملائمة وغير مؤهلة لتقديم الكفاءات الضرورية للإطار التربوي المشرف على العملية التربوية ليساعد بدوره في ضمان جودة المخرجات.
□ رداءة الخدمات التي توفرها المدرسة العامة والخاصة على حد سواء وتراجع مستمر لمستويات التحصيل بين التلاميذ والطلاب.
□ برامج تعليمية جوالة وإصلاحات يغلب عليها الطابع الارتجالي ويتم العدول عنها ما إن يتم الشروع في تنفيذها، تتغير وفقا للمزاج السياسي العام للبلد وأحيانا نبدأ بتطبيقها دون مراعاة الشروط الضرورية لها مثل إصلاح 1999 ونظام LMD والعيب لا يكمن في أي منهما في حد ذاته بل في انعدام البيئة الأكاديمية والمدرسية الضرورية لكل منهما فمثلا إصلاح 99 الذي يرتكز في جزء أساسي منه على مقاربة الكفايات تميز بالعجز البالغ في الكفايات الضرورية للتدريس كما وكيفا خصوصا على مستوى المراحل الأولى والمتوسطة للتعليم وهي مفارقة عجيبة دفعت القائمين على القطاع إلى معالجة الأخطاء بأخطاء أعظم منها (نذكر من تلك الأخطاء على سبيل المثال التكوينات السريعة للإطار التربوي : تدريب لمدة ثلاثة أشهر لأشخاص فاقدين للأهلية أصلا وخلق مدرسين مزدوجين من عدم!، واستعمال العقدويين على نطاق واسع في مرحلة معينة وما رافق تلك العملية من انعدام لأبسط معايير النزاهة في الاكتتاب والكفاءة العلمية في التدريس إلخ...).
أما نظام LMD على الرغم من أنه النظام السائد حاليا في الكثير من بلدان العالم إلا أنه لا يمكن تصوره في بنية غير مكتملة من الناحية الكمية (جامعات متكاملة أو على الأقل جامعة واحدة متكاملة) وفي بيئة جامعية تفتقر إلى الكثير من الوسائل البشرية والمادية ولا تتوفر على بنية تحتية للبحث العلمي بالمعنى الدقيق للكلمة.
□ مؤسسات تعليم عالي تصنع البطالة ولا تستجيب لمتطلبات سوق العمل: في مجالات حيوية للبلد كالصيد والزراعة والتعدين والخدمات والأعمال الهندسية وغيرها.
□ نسب مرتفعة للتسرب المدرسي (déperdition scolaire) بين سكان الأرياف البعيدة وفي الفئات المهمشة والأوساط الفقيرة في ضواحي المدن الكبرى لأسباب كثيرة يتصدرها الفقر والعجز عن تحمل أعباء التمدرس والتكوين الملائم للأطفال.
□ خريطة مدرسية تطبعها الفوضوية والارتجالية وسوء توزع المدارس والمدرسين على الصعيدين الوطني والجهوي، والنسب المرتفعة من المدارس غير المكتملة والتفاوت الكبير بين المناطق في هذا المجال حيث تظهر إحصائيات وزارة التهذيب الوطني (مشروع دعم المناطق ذات الأولوية التربوية 2014-2017م:
Ministère de l’éducation nationale, Projet d’Appui aux Zones d’Education Prioritaires ( ZEP) 2014-2017.)
أن نسبة 65 % من المدارس العمومية غير مكتملة وانتشار ظاهرة المدارس أحادية الفصل التي تتبع نظام التفويج خاصة في الوسط الريفي. لكن المشكلة ليست فيما يثيره مشروع دعم المناطق ذات الأولوية التربوية من حقائق مرعبة بل في أن ذلك المشروع الذي يدخل في نطاق التزامات الحكومة بتطبيق بنود خارطة الطريق لمحاربة آثار الاسترقاق لم ير النور أصلا لانعدام الإرادة السياسية المتبصرة رغم تخصيص ميزانية له تزيد على أربعة مليارات أوقية.
□ نسب استبقاء (taux de rétention ) ضعيفة وخاصة في الفصول الأخيرة من التعليم الأساسي حيث بلغ معدل الاستبقاء في المرحلة الأساسية خلال السنة الدراسية 2012- 2013 بحسب الإحصائيات الرسمية (الوثيقة المشار إليها آنفا) نسبة 75% مع التباين الشديد بين الولايات وما بين الجنسين، وتتزايد النسبة بشكل كبير في الأوساط الفقيرة والمهمشة.
□ تفاوت كبير في نسب التمدرس بين الجنسين وفي نوعية التعليم بين الفئات الاجتماعية وبين الجهات والمناطق داخل البلاد .
□ طاقم تربوي يفتقر إلى الوسائل التعليمية المناسبة (كما ونوعا) وإلى المحفزات المادية والمعنوية الضرورية لأداء مهمته في ظروف مرضية.
□ ضعف آليات الرقابة الإدارية على المفتشين وغياب الإشراف البيداغوجي للمفتشين على الطواقم التربوية خصوصا في المراحل المتوسطة.
□ فوضى في تعيين ما يسمى بـ "المستشارين التربويين" وغياب الإطار القانوني والتنظيمي المنظم لعملهم.
□ غياب الآلية القانونية والمؤسسية التي تفرض التكوين المستمر للإطار التربوي والإداري للمؤسسات التعليمية وربط ذلك بمبدأ المكافأة والعقوبة.
□ تعليم خاص بعيدا عن أن يضطلع بدوره في تعزيز فعالية المنظومة التربوية الوطنية وفي تعزيز اللحمة الوطنية يساهم بشكل سلبي في جزء كبير منه في تدميرها وفي استنزاف قدرات المدرسة العمومية وإفراغها من كفاءاتها في مجال التدريس والإشراف التربوي …وفي زيادة الفجوة بين الفئات الاجتماعية إلخ .
نجم عن تلك المشكلات وغيرها مما لا يتسع المقام لذكره فقدان المدرسة العمومية لهيبتها ومكانتها في عيون الجميع طلابا وأساتذة ومربين، والجامعة لجاذبيتها وقدرتها على تكوين جيل واثق من نفسه مؤمن بحظوظه في العمل والمساهمة في خدمة المجتمع.
وربما تكمن نقطة القوة الوحيدة فيما يتعلق بالمنظومة التعليمية الوطنية في القناعة الراسخة لدى جميع الأطراف المعنية بالعملية التربوية بوجود اختلالات جوهرية في منظومتنا التربوية رغم أن الوعي بتأثير ذلك على التنمية والتماسك المجتمعي لا يزال ضعيفا إلى حد ما وهو ما ينعكس في درجة تعاطي السلطة القائمة مع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي يطرحها التعليم في بلادنا.
وقد تبين لنا بعد الاطلاع على التجارب السابقة في الإصلاح ومعايشة البعض منها أنه لا بد لإنجاح أي مشروع للإصلاح من توفر عاملين اثنين :
1- عامل الإرادة السياسية الذي لا ينفصل عن توفير الموارد الضرورية (المادية والبشرية) للإصلاح من جهة والشجاعة في تطبيق الإصلاحات الضرورية أيا ما كان الأمر وكيفما كان الحال فمن يقدم على إصلاحات كبيرة تكون بحجم التحديات والمخاطر الموجودة دون توفير الوسائل الضرورية لذلك هو كمن يحاول بناء برج إيفل بأحجار قليلة !
2- عامل الزمن واستقرار الجهاز الحكومي والإداري المكلف بالإصلاح. والحال أن مشكلة غياب الاستمرارية في البرامج الحكومية وانعدام التراكم في التجربة في أي مجال مهما كان هي المشكلة الجوهرية التي لا نزال نعاني منها في قطاعات كثيرة وبشكل أخص في قطاع التعليم وأصبحنا أشبه ما نكون بمملكة الأسود لا يستتب الأمر فيها للأسد المهيمن إلا بقتل أشبال سابقه.
ونشير إلى أن أي نقص أو تقصير في أي جانب من ذينك العاملين المهمين يؤدي بالضرورة إلى فشل الإصلاح برمته ويفرغه من مضمونه ويجعلنا ندور كما هي العادة دائما في حلقة مفرغة من إصلاح لآخر ومن مشروع لآخر وتظل العلة قائمة وربما تتفاقم المشكلات وتخرج عن نطاق السيطرة في توقيت سيء.