"قمة" الفساد..بقلم/ البكاي ولد عبد المالك

أحد, 2018-07-08 01:17

"قمة الفساد" هو الاسم الذي أطلق على قمة الاتحاد الإفريقي التي اختتمت أعمالها منذ أيام بالعاصمة انواكشوط وهو اسم لا أجد أنسب منه ولا أكثر ملاءمة لها سوى قمة العنف والحروب الأهلية واللامساواة وهي من جملة الأمراض المزمنة التي تعاني منها القارة منذ خروج بلدانها من هيمنة الاستعمار وحتى اليوم وقد لا تزول في المدى المنظور نظرا لاستمرار أسبابها واتساع دائرتها.أما الفقر والمرض والتخلف التقني فهي جوهر القارة وماهيتها وليست من الأمور العرضية التي يجوز أن تتسمى بها أي قمة ينتظر منها معالجة تلك الأمراض.
فسادهم وفسادنا:
الفساد هو القاسم المشترك للسواد الأعظم من الدول في القارة الإفريقية. ومع ذلك تختلف أسبابه وأنواعه ودرجة تأثيره على الدول والجماعات باختلاف الظروف الاجتماعية والعقليات. ومع أننا جميعا كأفارقة ننتمي إلي سياق حضاري واحد ونتقاسم الكثير من المشتركات إلا أن للفساد عندنا مميزات تجعله مختلفا وأكثر تأثيرا على استمرار الدولة ومستقبل التعايش بين مكوناتها الاجتماعية لما له من أثر في تعميق الهوة بينها يوما بعد يوم. ولعل استعراض بعض الأمثلة يظهر مقدار التباين بين بلداننا الإفريقية في مضمار الشفافية والحكامة الاقتصادية. 
السنغال
ما إن تم الإعلان عن حجم الاحتياطيات الضخمة من الغاز الطبيعي في الجارة الجنوبية (السنغال) حتى بادرت حكومتها ومنظمات المجتمع المدني فيها إلى عقد منتديات موسعة للتشاور حول الطريقة المثلى لإدارة العوائد الناجمة عنه والطريقة المثلى للتقسيم العادل بين المواطنين.
مثل هذه الشفافية في تسيير الموارد العامة هو في الواقع سر نجاح السنغال النسبي في التنمية على الصعيد الإقليمي.
ويعود السبب في ذلك النجاح إلى أن الموارد في ذلك البلد على ضىآلتها وكذا المساعدات الخارجية كلها موجهة للتنمية والاستثمار في قطاعات حيوية الأمر الذي جعل نسق التنمية فيها يبدو أظهر على مستوى البنية التحتية والعمرانية. 
السنغال قبل اكتشاف الاحتياطيات الجديدة من الغاز لم تكن تمتلك ثروات وموارد طبيعية مهمة ومع ذلك لم تتوقف وتيرة التنمية يوما في ذلك البلد بنسق يفوق بكثير مثيلاتها في شبه المنطقة بما فيها موريتانيا التي تمتلك منجما من أكبر مناجم الحديد في العالم وأهمها من حيث قيمة الاحتياطي وجودة المنتوج كما تمتلك مناجم متعددة لأغلى معدن في العالم (الذهب) لا يزال استغلالها وتقاسم إنتاجها مع الشركات الأجنبية وتسيير العوائد الناجمة عنها يفتقر إلى الحد الأدنى من الشفافية وبدون انعكاس يذكر على حياة المواطنين في البلد. ثروة لا يجد المواطن منها سوى من ينبعث من عوادم الشاحنات الكبيرة المحملة بالحاويات التي تهز كل يوم جيئة وإيابا سكون العاصمة في الساعات الأولى من الصباح وعند الغروب. 
الثروة السمكية الهائلة بدورها تفتقر إلى الحكامة الاقتصادية الجيدة في هذا القطاع كما في غيره من القطاعات الحيوية الأخرى في البلد وهو أمر لا يجوز ربطه حصرا بالحكومة الحالية رغم أنها تتحمل كامل المسؤولية في استمرار الفساد وسوء الحكامة فيها...
فسادهم وفسادنا 
عالم الإنسان الإفريقي (جنوب الصحراء) بعيدا عن ضيق النظرة العنصرية الموروثة عن الانثروبولوجيا الاستعمارية هو عالم محدود في الزمان والمكان عالم تحده قوة القانون والخوف من الدولة من جهة والضبط الاجتماعي الناجم عن فعل التربية والثقافة من جهة أخرى. 
عندما يسرق الواحد منهم شيئا من المال العام فلا يمكن أن يفكر في أبعد من يومه وأفراد أسرته الصغيرة مع التفكير جديا في قهر القانون وما يمكن أن يترتب على ذلك الفعل من عواقب وخيمة.
وعندما يرتشي فلا يمكن أن تتجاوز رشوته علبة سجائر أو ما يسمح له بشراء قنينة شراب ليست بالضرورة من النوع الجيد لسهرة الليلة الموالية أو لتوفير متطلبات عزومة لائقة لصديقته في مطعم محترم وسط المدينة يكسر به رتابة العيش في الضاحية أو لاقتناء لوازم عشاء فاخر لأسرته الصغيرة مما لم يعتادوا عليه كل يوم...
أما الفساد عندنا فله جذور انثروبولوجية وثقافية تربط بالعقلية الاجتماعية المتوارثة من بلاد لم يستطع الانثربولوجيون وعلماء الاجتماع والمؤرخون الاتفاق لها على وصف واحد...الفساد عندنا مرتبط بعقلية الادخار وفي بعض الأحيان بهوس المكانة الاجتماعية الزائفة . 
نعم "المواطن" الإفريقي محدود النظرة والأفق خصوصا إذا تعلق الأمر بالتدبير الاقتصادي والتصرف غير القانوني في المال العام فهو قادر على عكس ما يتصوره الكثيرون على التمييز بين المال العام والمال الخاص ولا يعود ذلك إلى أسباب انثروبولوجية تتعلق بالطبيعة كما قد يظن البعض بل إلى إحساسه العميق بالدولة وقوة الإكراه التي تمثلها أما "الفرد" عندنا فهو متسع النظرة ويأخذ التفكير في المستقبل عنده طابعا سلبيا تماما مثل تفكيره في الماضي : لا يستحضر من الماضي إلا ما يساعد في تعزيز مكانة موروثة تدر عليه امتيازات مادية ومعنوية ليست من حقه بطبيعة الحال لأنها ليست من إنتاجه ولم يساهم في بنائها بل كانت ولا تزال هي علة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والسبب الأهم في بقاء مجتمعنا حتى الآن ضمن دائرة المجتمعات المناهضة للتطور. وأما تفكيرنا في المستقبل فليس أقل مأساوية من تفكيرنا في الماضي فالمستقبل بالنسبة إلينا ليس أكثر من أرقام وحسابات وعقارات تتحول في أغلب الأحيان إلى اقتصاد سلبي يؤثر سلبا على الاقتصاد الكلي.
الأسئلة المضمرة عند زعمائنا وإداريينا وحتى عند النشطاء في المجتمع المدني هي دائما : بماذا سأخرج من تلك المسؤولية ؟ ماذا يمكنني أن أكسب منها على الصعيد الشخصي؟ ولا يتعلق الأمر هنا طبعا بالأمور المعنوية والخبرات التي قد تكون مفيدة في موقع آخر : قادتنا هم أبناؤنا،هم أبناء هذا المجتمع الذي هذه طبيعته.
ومع إدراكنا لخطورة التعميم تبقى الحقيقة التي لا تحتاج إلى إثبات هي تجذّرُ الفساد في العقليات وفي كل مفصل من مفاصل الحياة الاجتماعية : داخل الأسرة وفي العلاقة بين الجنسين لدرجة أن المرأة تدخل في عش الزوجية عندنا وفي ذهنها سؤال واحد بماذا سأخرج من هذه الزيجة طالما أنها تنوي تكرار التجربة إلى ما لانهاية في ظل أزمة مستحكمة في القيم الأخلاقية والحضارية والدينية أزمة تعود في الواقع إلى سبب جوهري وهو انعدام التربية بالمعنى المؤسسي أليست مشكلتنا الأكبر هي مشكلة التربية ؟ ما هو نصيبها من الموازنة العامة للدولة ؟ ما هي أولوياتها وأهدافها ؟ لا أحد يستطيع أن يجيب عن تلك الأسئلة لأنها أسئلة لم تطرح أصلا !
روندا 
روندا التي يرأس رئيسها الاتحاد الإفريقي بفخر واعتزاز تتربع اليوم على القمة بمعايير النجاح الاقتصادي والحكم الرشيد وقد تحولت من بؤرة للحروب الأهلية والإبادة الجماعية ولأكثر أمراض العصر فتكا بالإنسان (السيدا) ومن أضعف معدل للأعمار في العالم ((espérance de vie إلى نموذج يحتذى به. تحول شعبها من واقع الشعب المنبوذ إلى الشعب المحبوب،الشعب المثالي بفضل نجاحاتها الاقتصادية ونمط الحكامة الاقتصادية التي هي بالضرورة الإبن الشرعي للحكامة السياسية : فلا يمكن أن نتصور نجاحا اقتصاديا في غياب دولة القانون والمؤسسات ولا معنى للحديث عن دولة القانون والمؤسسات مع انتهاك الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات. فثروة كل شعب هي ملك للجميع ويجب أن تدار في ظل معرفة تامة من الجميع في إطار من الشفافية المطلقة.
كان البعض حتى وقت قريب عندما يقال له ستذهب إلى روندا لا يفكر سوى في الطريقة التي يمكن أن يموت بها : موت عنيف عن طريق العنف أو موت "رحيم" بأكثر الأمراض فتكا في الوقت الحالي : نقص المناعة المكتسبة (السيدا) الذي يتصدر فيه ذلك البلد قائمة دول العالم .أما اليوم فيكفي أن تدخل اسم روندا في محرك البحث على شبكة المعلومات الدولية...لكي تنهار لديك دفعة واحدة جميع معايير التمييز: اقتصاديا وسياسيا وعمرانيا. وبما أن الباعث على كتابة هذا المقال ليس تقديم الدروس والعبر فلا داعي للاعتبار بالنموذج الروندي طالما أن ذلك لن يغير شيئا في صورة الإفريقي لا في المخيلة الشعبية ولا في أذهان قادتنا. ولا داعي كذلك لتعلم الدرس من السنغال لأننا "نعرف السنغال"ّ !
العربي دائما هو الأفضل وإن كان واقعه عكس ذلك : الخروج المذل من كأس العالم ليس درسا لأن السياسة شيء والرياضة شيء آخر! عندما تحين الأمور الجدية سنعرف طينة العربي! ومتى يحين وقت الأمور الجدية ؟!
إن النجاح الاقتصادي ليس هو العامل الوحيد لكنه العامل الأهم بالطبع في استقرار الشعوب والقضاء على عوامل التوتر والحروب الأهلية خصوصا إذا ترافق مع قدر معين من التوزيع العادل للثروة بين أفراد الشعب بغض النظر عن اللون والعرق أو الأصل الاجتماعي. النجاح الاقتصادي هو سر التماسك والتضامن بين مواطني الولايات المتحدة التي تولد فيها المواطنة يوميا وتتناسل من غير أم ولا أب غير النجاح الاقتصادي وقدر كبير من العدالة والحكم الرشيد.
فاعلية النموذج الاقتصادي والعدالة التوزيعية أصبحت تمتلك قوة تأثير سياسي عجيبة في عالم اليوم فهي التي تحدد الأحجام الحقيقية للدول وهيبتها واحترامها وتأثيرها في القرارات الدولية وهي ذاتها التي تجعل كل شخص في المعمورة يطمح في أن يكون عضوا في تلك الدول وأن يكتسب حق المواطنة فيها وتأتي بعد ذلك اعتبارات التاريخ المشترك ووحدة المصير هذا الأمر لا نزال بعيدين كثيرا عن فهمه. 
غانا 
غانا ذلك البلد الصغير في غرب القارة نجحت في سرقة النموذج الياباني في التنمية وخصوصا في التربية : من أكبر ممول للهجرة السرية في العالم إلى واحدة من أكثر النماذج الاقتصادية نجاحا في القارة الإفريقية .
ولا حاجة هنا لاستعراض المزيد من النماذج الناجحة في التنمية على الصعيد الإقليمي والتي تمثل التنمية فيها القاعدة وليس الاستثناء كما هو الشأن عندنا.. ولنأخذ هنا أكثر النماذج تعبيرا في هذا الصدد مدينة العيون في الصحراء الغربية (سواء اعتبرناها مدينة محتلة في نظر البعض أو اعتبرناها مدينة مغربية في أطراف المملكة) هذه المدينة تعرف منذ بعض الوقت وتيرة متصاعدة من التنمية في بنيتها العمرانية وبيئتها الصحية ووسائل الراحة فيها تفوق أضعافا ما عرفته العاصمة انواكشوط في عمرها المديد. فهل هناك نماذج أخرى يمكن المقارنة معها ؟
قصر المؤتمرات الجديد لا يمكن أن يكون إلا مفخرة لكل الموريتانيين نعم هذا صحيح لكنه ما كان ليثير دهشة أو إعجابا لو لم تكن التنمية عندنا هي الاستثناء وليس القاعدة ! غيرنا يشيد يوميا عشرات المشاريع المهمة دون أن تثير الانتباه ودون أن تكون موضوعا لحملة إعلامية تصم الآذان فقط لأن التنمية هناك هي القاعدة وليس الاستثناء.نحن باحتفائنا المبالغ فيه بذلك الإنجاز ندين أنفسنا.
ومع الاعتراف بقيمة ذلك المرفق الحيوي إلا أنه يحق للجميع أن يعرف كيف تم بناءه ؟ وكم أنفق من ثروة الشعب من أجل اقتنائه ؟ والأسئلة نفسها تنطبق على مشاريع مماثلة تم إنجازها في السنوات الأخيرة.
الجواب على هذه الأسئلة في الحقيقة هو الذي يحدد بالفعل ما إن كان ذلك الإنجاز يدخل في خانة النجاحات الاقتصادية التي يجب أن تستمر أم أنه يعبر عن وصولنا قبل غيرنا إلى "قمة" الفساد. بدون هذه المعادلة لا يمكن التمييز بين النجاحات الاقتصادية الحقيقية وبين "قمة" الفساد ولا يمكن الحصول على المعيار الصحيح للتمييز بين ما هو نجاح اقتصادي حقيقي يحق لنا أن نفاخر به بين الأمم وبين "قمة" الفساد والحكامة الخاطئة التي يجب أن تتوقف على الفور دون قيد أو شرط. 
أنا أعرف أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز لديه أكثر من سبب للقيام بإنجازات كبرى وتخليد اسمه بين كبار الزعماء الذين عرفتهم القارة وهو طموح مشروع وقابل للتحقيق على أرض الواقع ومع ذلك فأنا أعترف في الوقت الحالي باعتباري مواطنا بأنني لا أمتلك أية وسيلة ولا أعتقد أن غيري من المواطنين العاديين يمتلكها لتقييم حقيقة ما يتم إنجازه حاليا في ظل انعدام معطيات الشفافية في تسيير المال العام وهو النهج الذي درجت عليه حكومة المهندس يحيى ولد حدمين منذ إنشائها.ألم يجد الرئيس الروندي الرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي سببا آخر للثناء على جهود التنمية في بلادنا غير القصر الذي قال هو نفسه إنه أعدّ خصيصا لاحتضان القمة ؟ هل هو تأكيد للذم بما يشبه المدح ؟ هل يشكرنا على عدم استضافة الأفارقة تحت الخيام مع علمنا بأنها لا تمثل جزءا من موروثهم الثقافي المشترك مثل العرب ...؟! لا.. الرئيس الروندي أعقل من أن يصل إلى هذه الدرجة من الوقاحة !
التنمية عندنا إما ضعيفة جدا وخاضعة لهيمنة عقلية الانتظار المتوارثة التي لم تعد خيارا حتى عند "أضعف" الدول الإفريقية، أو تنمية "قممية" موسمية ضعيفة محدودة في الزمان والمكان والوسائل.
قلنا إن التنمية أصبحت لدينا الاستثناء وليس القاعدة ولعلنا نحتاج إلى قمة إفريقية أو عربية كل ستة أشهر لنتذكر واجب البناء الذي لم ينسه أشقاؤنا في الشمال والجنوب ولتتذكر حكومتنا الواجب الذي من أجله انتخبها الشعب. ذلك هو ما تدل عليه الوتيرة التي تم بها بناء قصر المؤتمرات الجديد وتم بها معالجة الحفر في الطرق الرئيسية في العاصمة والتي أصبح سائقو العربات بمن فيهم صاحب هذه السطور يحفظونها عن ظهر قلب لكثرة الوقوع فيها، وتم بها إهمال التنمية في المدن الداخلية وفي الأرياف لا لشيء إلا لأنها المحل الدائم الذي لا بديل عنه لإقامة المواطن وليس الإقامة المؤقتة لضيف زائر يرى الأمور من بعيد.
فمتى يحين دورنا في عقد قمة أخرى؟ أصبحنا نتشوق إلى القمة المقبلة ولعلها قمة المؤتمر الإسلامي؟ فمتى يحين موعدها أعنى موعد حصولنا على جرعة ضئيلة من التنمية ؟ إلى ذلك الحين تبقى آمال التنمية والبناء معلقة وتبقى انتظارات المواطن البسيط مشروطة بقدوم وافد جديد.