منذ “خريف” العام الماضي أدرك الجميع أن هذه السنة ستكون سنة جفاف، وأول من استشعر ذلك أهل المواشي أنفسهم، وسكان الريف والمزارعين ـ الزراعة المطرية ـ غير ان كثير من هؤلاء السكان لا يملك من المواشي والمادة ما يخوله التحرك، وقد استشعر أغلب نخبة البلد هذا الخطر، فكتب الإعلاميون والمدونون عن الأمر مبكرا مع نهاية موسم الأمطار، ثم اتسعت دائرة طرق جرس الخطر فأصدرت أحزاب معارضة بيانات تدعو للتدخل العاجل مثل بيان تكتل القوى الديموقراطية يوم 20 اكتوبر، ثم بيانات لعدد من الأحزاب خاصة المعارضة، ثم قام رؤساء أحزاب المنتدى بزيارة للداخل في شهر مارس كرسوها لمشكل الجفاف والعطش.
مع بداية موسم الصيف اتضحت الصورة القاتمة أكثر، وكان للإعلاميين دور كبير في نقل صور المعاناة ميدانيا (فريق الأخبار إينفو على سبيل المثال) فتم نشر تقارير فيديوهات ومقابلات وصور عن الواقع كما هو، ثم تكلم بعض المنتخبين المحليين في الداخل بما فيهم موالون ـ على قلة من يملك شجاعة الكلام من هؤلاء المنتخبين ـ فأعلن بعض العمد بلدياتهم مناطق منكوبة وناشد آخرون الدولة وخاصة الرئيس بالتدخل السريع لإنقاذ الثروة الحيوانية، بل وإنقاذ البشر قبل فوات الأوان، ولم يجد أي ذلك آذانا صاغية، بل انشغل الإعلام العمومي وبيادقه بتقارير التزوير وتزوير التقارير، وتابعو في تسويق الوهم حتى انفجر الواقع هذه الأيام!
لا يمتلك عزيز نظاما فعليا ولا يتمتع مسؤولوه بصلاحيات حقيقية ـ مع عدم إعفاء كثير منهم من المسؤولية ـ لكن الشخص الاوحد ذي الصلاحيات المطلقة في كل شيء ـ ولا امعاه خطاب ـ هو الرئيس نفسه، فلا هو يؤمن بالدراسات ولا الخطط والاستراتيجيات، ولا ينتظر الحوارات ولا المشاورات، فلمَ لا يتدخل بسرعة تكفي لإنقاذ الأرواح والثروة الحيوانية؟ خاصة أنه تبجح أكثر من مرة بما يسميه “النهضة الشاملة”، وطالما تفاخر بخزائنه المليئة، كما تبجح وزير ماليته ذو الدخل الملاييني بالرفاه المشترك، فأين الخزائن وأين الرفاه والنهضة الشاملة؟
طار عزيز إلى معاقل أهل “لبقر الحُمر” ـ بضم الحاء كما نطقها هو ـ وأنفق المليارات في تزوير استفتاء لا علاقة له بواقع هؤلاء ولا غيرهم من الشعب، وأحدث شرخا عميقا في بنية المنظومة التشريعية في البلد، وقتل الإجماع الذي حصل على دستور 2006، وأنتج خلافا وشرخا عميقا حول رموز البلد لأول مرة (مثل العلم)، وقضى على أهم مؤسسة تشريعيا تستطيع ـ نظريا ـ كبح سلطته الجامحة، ثم سخر من عشرات الآلاف من مؤيديه وغيرهم في معاقل “لبقر الحُمر” رابطا بين تصويتهم “بنعم” وبين تكاثر بقرهم وكثرة لبنه، مستهزيا بعقولهم في كلامه عن الربط بين خطوطه الحمراء وسلامة مواشيهم، فلمَ لا يقوم بنفس الجهد والحماس والتكاليف لإنقاذ حياة هؤلاء ومواشيهم بدل الانشغال بالانتساب المليوني لحزبه الوهمي، الذي لن ينتظر بعد رحيله أكثر مما انتظره الحزب الجمهوري لتتطاير شظاياه بعد سقوط معاوية!
الخلل في قضية الجفاف باختصار هي أن هناك شخص يتم فيه اختزال كل شيء، ويكرس كل شيء لرغباته دون مراعاة أي استيراتيجية وطنية أو نظرة مصلحية عامة، شخص لا يقيم وزنا للرأي أو المشورة أو الخبرة، شخص ينشغل بأمور صغيرة، بل وصغيرة جدا، عما يفترض أن يكون دوره الأساسي، وإلا فما المانع من التصرف في الوقت المناسب؟ ألم تتضح معالم السنة وملامح الجفاف منذ أغشت الماضي؟ لماذا لا يتم توفير الأعلاف بأسعار كميات مناسبة في عموم التراب الوطني وكذلك المواد الغذائية خاصة ذات الاسعار المناسبة كالقمح والأرز الموريتاني والزيت الخ؟ وقد حصلت تجارب مماثلة من قبل مطلع الألفية، بل وحتى مطلع الثمانينات؟ لماذا لم تضع الدولة خطة وقائية تسبق النتيجة الحتمية للجفاف؟
إن الخلل يتعلق بعدم المسؤولية، وغياب الإحساس بواقع الفقراء إحساسا حقيقيا يدفع إلى العمل الفعلي لا إلى الكلام والاستغلال، ثم الانشغال بالصفقات والفساد والنهب والمغالطات ليفتضح الواقع بصور تدمي القلوب وتدمع العيون!