ليس من مصلحة بلد يعرف احتجاجات جهوية تاريخية، وأزمة فقر باتت ترمي بالعشرات إلى القبور تدافعا على لتر من الزيت، واحتقانا سياسيا معقدا، أن يعمل على توسيع دائرة التأزيم بالتعنت على رفض حل مشكل تـُهَدّدُ ديمومتُه المصالح الاستراتيجية للمنطقة بأسرها وللشركاء الدوليين.
لقد أصبحت الأمم المتحدة (وهي الراعي الأكبر لمصالح الدول العظمى) على يقين من أن نضوب الحقول النفطية في الخليج، المنتظر قبل أقل من قرن، سيهدد مصالح الغرب، وأن الأفق الوحيد والبديل الأبرز سيكون حوض تاودني الذي أظهرت كل الدراسات ثراءه بالذهب الأسود واليورانيوم. وبالتالي سيتوجب على المنظومة الدولية أن تبحث عن سبل إخلاء المنطقة من كل التوترات العسكرية والنزاعات المزمنة استعدادا للبدء في "أحسن استغلال" للثروة الباطنية بتاودني على اعتباره الضامن مستقبلا لتحريك الماكنة التكنولوجية الغربية. غير أن الأمم المتحدة تعرف بأن مثل هذا "الإخلاء" يتطلب، في البدء، حل النزاع في الصحراء الغربية كأكبر بؤرة توتر تقع على مشارف الحوض النفطي الهائل المشترك جغرافيا بين مالي وموريتانيا والجزائر. إنه الحل الذي تدفع إليه شركات قوية أصبحت لها كلمتها في الفعل الإقتصادي والسياسي والدبلوماسي الدولي بسبب رؤوس أموالها الضخمة وتشابك مصالح البلدان القوية في أرباحها وتأثيرها. فشركة "باركا بتروليوم" ترتبط ببنوك وهيئات مالية قوية في أستراليا والولايات المتحدة وألمانيا، وقد تحققت، بعد الدراسات المؤصلة، أن عدم الاستقرار السياسي والأمني في حوض تاودني يقف حجر عثرة أمام استغلال موارده، وأن حل معضل الصحراء الغربية سيلعب دورا أساسيا في استقرار المنطقة وتوحدها، أمنيا واستخباراتيا وعسكريا، في وجه عوامل التوتر خاصة الجماعات المتطرفة، وعصابات المتاجرة بالأسلحة، وخلايا تهريب المواد غير المجمركة، وشبكات تهريب المخدرات والمهاجرين السريين، وباقي "الآفات" التي تضر بالغرب في المقام الأول. نفس الشيء لاحظته "توتال" الفرنسية (سادس أكبر شركة عالمية في مجال النفط والغاز)، و"وودسايد" الأسترالية ذات الأسهم المتعددة، و"شينا بتروليوم كوربوراسيون" الصينية، إلى آخر الإمبراطوريات المالية الكبرى المهتمة بحوض تاودني، والمتحكمة في القرارات والتوجهات الدولية منذ أن هيمنت الفلسفة السياسية المعروفة بـ"العولمة" على إنتاج واستهلاك وعادات الكوكب.
وإذا كانت الأمم المتحدة، تحت ضغط التخوف الغربي من عدم إمكانية استغلال حوض تاودني في ظل الحاجة الملحة إلى النفط واليورانيوم، تسعى جاهدة، وإنْ باستحياء، نحو وضع حد لبؤرة التوتر في الصحراء الغربية تمهيدا لاستقرار المنطقة الضامن لاستخراج خيراتها وحماية أوربا من تأثير شبكات تهريب البشر والمخدرات، فإن استراتيجيتها تقتضي أيضا إشراك الاتحاد الإفريقي في البحث عن تسوية عاجلة تأخذ في الحسبان حق تقرير المصير المكفول قانونيا، وضرورة استقرار المنطقة لتساهم في القضاء على "الآفات" المذكورة أعلاه، كما تأخذ في الحسبان المضامين الدبلوماسية البعيدة لجلوس الملك محمد السادس على نفس المنبر مع الرئيس ابراهيم غالي في الفعاليات القارية الأخيرة.
إن العوامل الاقتصادية المتشابكة، والمرتبطة بالمصالح الحيوية للغرب، إضافة إلى التوجه الصحراوي الجديد المتمثل في "عسكرة" الحكومة الصحراوية بتعين أحد أبناء المؤسسة العسكرية على رأس الحكومة إلى جانب أخيه في السلاح (رئيس الجمهورية)، كانعكاس مباشر لمشكلة الكركارات، وما قد يعني ذلك من استعداد غير مسبوق للدخول في حرب أخرى، أمور تدعو الطرف المغربي إلى التبصر والتعامل بحكمة وإنصاف وعقلانية مع المعطيات الموضوعية، إذ لا يمكن لتنمية إفريقيا، ومستقبل مصالح الشركاء الدوليين، ومصير شعب برمته، واستقرار منطقة بأكملها، أن تظل حبيسة سياسات توسعية لا تتماشى مع منطق العصر.