قبل أن تتهيأ لى الظروف لأداء مناسك الحج زرت مواقع أثرية عديدة لا تزيد فى كثير من الأحيان على حيطان مهدمة و أكوام من حجر و حفر و أعمدة متناثرة و زخارف حيوانية و رسوم و مخطوطات جدرانية لكنها ، رغم هشاشتها ، كانت دلائل حضارية راسخة فى جذور التاريخ و رمزا للحقب الغابرة و بصمة لحضارات أمم إندرست لكن إستحضارها و حمايتها من العبث كان واجبا و حقا للأجيال المتعاقبة لأن هذا الإرث هو صلة الوصل بين الماضى و الحاضر و الشاهد على عزة أمة و مصدر فخرها و إعتزازها و السبيل الأمثل لترسيخ الهوية الوطنية و الدينية و تحضير المستقبل .
فى الأيام التى سبقت رحلتى إلى الحج كنت متحمسا أولا لتأدية الركن الخامس من أركان الإسلام و ثانيا لأننى كنت أحلم دائما منذ الصغر بإستكشاف الآثار الإسلامية و خاصة النبوية ، منبع عز الإسلام و مبعث فخر المسلمين و الشاهد على زهو و تطور حضارتهم و سجل السيرة النبوية العطرة و سيرة الخلفاء الراشدين و كانت تغذى هذا الحلم دقة القصص التى كانت ترويها لنا جداتنا حتى أننا كنا نتخيل البيوت و المساجد و الأزقة و الصحون و المأكل و المشرب و طرق اللهو و التعلم و الأزياء و حتى الوجوه و الأجسام .
وصلنا إلى المدينة المنورة بعد المغرب . كانت الطرق سريعة ، سيارات الدودج و شفروليه الأمريكية الفارهة تسير بسرعة فائقة ، الإنارة تبهر الأنظار محلات الكا أف سى ، المراكز التجارية فنادق خمسة نجوم .... كانت تشبه أي مدينة حديثة مثل لاس فيگاس أو تورونتو لا شيأ يشى بقدسية المدينة و طابعها التاريخى : لا توجد أسوار تحيط بها كسائر المدن التاريخية الإسلامية لا توجد بنايات قديمة بأزقتها الضيقة و مطاعمها و أسواقها التقليدية !!!! عند وصولنا إلى الحرم النبوي كان المشهد مهيبا فى الداخل خاصة عندما تشاهد المسجد النبوي العتيق و القبة الخضراء التى لا تكاد تخالها من الخارج لكثرة التوسيعات و الإضافات و الرخام الإيطالى المستورد اللامع و المصابيح المبهرة التى طرأت على الحرم . لكن الملفت هو هذا السور الذى ضرب على الحرم من كل الجهات من المحلات التجارية و الفنادق فى تزاوج غير متناغم بين حطام الدنيا من ذهب و عطور و قماش و سلع أخرى تعرض للبيع مع ما يتطلبه المكان من خشوع و تأمل و إستحضار العبر و تهذيب و ترويض للنفس بالإبتعاد عن فتات الدنيا و مغرياتها و لو لأيام !!!! بعد صلاة الصبح حضرت لائحة للأماكن التى كنت أنوى زيارتها فطلبت من سائق الأجرة إن كان يمكن أن يدلنى على المكان الذى كان يسكن فيه الخلفاء الراشدون و أحياء بنى النجار أين بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم و دار أبى أيوب الأنصارى و مساكن بنى ساعدة و سقيفتهم ... فقاطعنى ضاحكاً بملء حنجرته قائلا هذه الأماكن لا وجود لها إلا فى كتب السيرة فنحن سويناها بالأرض و أنشأنا مكانها طرق سريعة و "مولات "و فنادق و عمل خدام الحرمين الشريفين المتتاليين على ترك بصماتهم بزيادة توسيعات على الحرم على حساب الذاكرة و التراث كأن الأرض ضاقت بما رحبت و أن كل هذه العمارات و المحلات التجارية التى تخنق المسجد النبوي لا بد أن تكون هنا !!!!! هنا لا يوجد من شواهد التاريخ إلا التضاريس التى كانت عصية على أسنان الجرافات مثل جبل أُحد و ووادى العقيق و وادى رانوناء ... حتى الخندق لم يبق له أثر !!! إنطلقنا إلى جبل أحد فكانت صدمتى عندما رأيت مقبرة شهداء أحد التى تقع فى سفحه و التى هي ساحة جرداء يحيط بها حائط أجرب و كان قبر حمزة رضي الله عنه و أرضاه عبارة عن كومة من التراب و لبنتين .
فى أماكن أخرى من العالم شيدت أضرحة و بنيت جوامع شاهقة على قبور أشخاص هم أقل شأنا بكثير من سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب لكن كان حظهم أن وافتهم المنية فى بلدان لا يوجد لهؤلاء الأمراء الأجلاف عليها سلطان.
تساءلت عن سر هذا التحامل على الذاكرة و إختزال التاريخ و التنكر لبعض الرموز و طمر الماضى الزاهر تحت ركام الإجتهادات الفقهية التى سايرت أو على الأقل صادفت هوى فى نفوس ملوك بنوا سلطتهم بالإكراه و إحتقار الأحياء قبل الأموات بالإتكاء المزيف على الدين ؟ همس أحدهم فى أذنى أن السر هو أن هذه الأسرة إنقلبت على المملكة الهاشمية التى كانت تحكم البلاد قبلها و كانت تستمد شرعيتها من أصولها الشريفة فإنصب همهم على تغيير ممنهج لمعالم التاريخ الإسلامى و إلغاء لأصالته و مسح لذاكرته متعللين بسد الذرائع أمام الخوف غير المبرر على عقائد الناس من البدع و مهالك الشرك حتى وصل الأمر إلى درجة الهوس ، لكن هذا لا يبرر هدم آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم و آثار صحابته و آل بيته الطاهرين .
و مما يزيد الحنق و الحسرة أن ما نالته يد الإنسان من معالم التاريخ و إندثر تحت معاول الهدم و التلف و التخريب لا يمكن تداركه لو حصل يوما أن تغير الحكم أو تبدلت النظرة .
كلما يمكن فعله فى المستقبل هو إنشاء مدينة بمجسمات تحاكى بأكبر دقة ممكنة النمط الذى كانت عليه مدينة الرسول صلى الله عليه و سلم أيام الوحي و عند فجر الإسلام لتقريب الصورة من أذهان الناس كما هو الحال فى مدينة "أبو ظبى " مثلا التى تفطن أهلها ، بعد فوات الأوان ، لفداحة الكارثة بعد أن عبثت بها نفس أيادى الجهل و التخلف ظنا من البدو حديثى العهد بالثروة الريعية أن الحضارة هي تشييد ناطحات السحاب و سب الماضى و نسف معالمه !!!!
الفرق أن الجرم الذى إرتكب فى السعودية هو بحق جميع المسلمين .
بعد سنوات زرت إسطنبول فوجدت المدينة تزخر بالآثار الإسلامية كأنها هي التى كانت منبع الوحي و الرسالة المحمدية فتذكرت ما قاله بن خلدون من تعامل الأعراب مع العمران و المدن و فهمت لماذا وصلت تركيا إلى هذا المستوى من التطور و بقي آل سعود و من والاهم فى ظلمات لا يبصرون و فى طغيانهم يعمهون .
أحمد عمو ولد المصطفى
نص كتبته فى رمضان الماضى حول ما شاهدته من جريمة محو الآثار الإسلامية فى المدينة المنورة .