
لا نريد من خلال هذه المعالجة التحريض على انقلاب عسكري ولا حتى التحذير من انقلاب قادم قد يتطلب التحضير له فترة سواء كان انقلابا عسكريا صرفا نابع من الجيش بدءا وختاما دون تدخل القوى السياسية في خطته ، أو انقلاب عسكري سياسي تنبع فكرته من قوة سياسية وإيديولوجية كما يلوح في أفق سماء موريتانيا ، يتولى العسكريون تنفيذه بعد الاقتناع أنه السبيل الأقصر لضمان حل الأزمة السياسية الراهنة بالبلد ، خصوصا أن الانقلاب العسكري على رأس نظام سياسي غير منتخب انتخابا نزيها يعتبر ظاهرة حيادية لا تحاكم بالسلب أو بالإيجاب في ذاتها لأنها لجوء إلى القوة – بدل القانون – لإسقاط قيادة غير قانونية ، وجاء في تعريف الانقلاب العسكري أنه "عملية عسكرية سريعة ودقيقة لإزاحة قائد دولة من منصبه ، واستبداله بغيره، سواء كان قائد الانقلاب نفسه ، أو من يختاره هذا ويعينه لقيادة الدولة "، ولعل لا خلاف أن القيام بانقلاب عسكري في الوقت الراهن بموريتانيا يبدوا مخاطرة بالغة الصعوبة وعملية عسيرة فلا الظروف الدولية مواتية ولا الأوضاع الإقليمية مناسبة لقيام أية مغامرة انقلابية قادمة بموريتانيا تشتمل على مخاطر كبيرة ، أبرزها صعوبة تحييد مختلف القوى المرتبطة بالنظام القائم والمنتفعة من منافعه . أي نمط للانقلاب القادم بموريتانيا تعددت أنماط الانقلابات التي عرفتها على مر تاريخها السياسي منذ 1978 إلى 2008 ، ويبدوا أن الانقلاب المقبل لا يعدوا أن يكون وجها من الوجهين التاليين . 1 ــ الوجه الأول : أن يكون انقلابا داخليا : تدبره القوى التي يُفترض فيها الوقاية منه ، كالحرس الرئاسي "حرس الانقلابات " إنقلابي 2005 و 2008 ، وهو ما يُعرف بانقلاب القصر، ويبدوا هذا النمط في الوقت الراهن بموريتانيا صعب أمنيا وسهل عسكريا ، فمن الصعب أمنيا أن يقود حرس الانقلابات " بازب " انقلابا عسكريا نظرا لقرب مدبريه من عين عزيز واستحكامه فيهم وتثبيت أركان حكمه من خلالهم ، ومن السهل عسكريا أن تتصدر بازب الانقلاب المقبل لقربها من القصر الرمادي ، ولكن في جميع المستويات لا يحتاج انقلاب القصر لعدد كبير من المتآمرين ، بل يكفي عدد صغير نسبيا من المتحكمين في مفاصل بازب من التسلسل القيادي وذلك بالتركيز على مراكز القوى الفعلية لا السلطة الظاهرية . 2 ــ الوجه الثاني : قد يكون الانقلاب خارجيا : تتولى تدبيره قوى غير أولئك المقربين من رأس الدولة ، وهو أمر في غاية الصعوبة الممكنة خصوصا وأن العاصمة لم تعد السيطرة عليها تعني بالضرورة السيطرة الفعلية على السلطة بل غدت عسكريا مركزا رمزيا . الانقلاب القادم : الدوافع والمخاطر تتباين الدوافع الدافعة لأي انقلاب عسكري مقبل في موريتانيا وتتفاوت باختلافها درجة المخاطر التي يلزم الاستعداد لها من طرف من قد يخططون للانقلاب الذي تلوح في الأفق بشاره .و يمكن إعزاء دافع الانقلاب القادم لدوافع متعددة منها : 1 ـــ الدافع الثوري والتغييري: أي التطلع إلى تغيير الوضع السياسي والاجتماعي في البلاد، واستبداله بوضع أحسن ، بعد امتناع الحكم القائم من قبول التغيير بالوسائل الديمقراطية ، ولعل هذا الدافع من بين أبرز الدوافع التي ستدفع المحاولة الانقلابية التي تلوح في الأفق بشار التخطيط لها . 2 ـــ الدافع الأيديولوجي: وهو جزء من صراع الأفكار والأيديولوجيا التي قد يتبناها عسكريون ويسعون إلى تطبيقها من خلال انقلاب ، خصوصا بعد اتهام عزيز في لقاءه الأخير لبعض التيارات باستغلالها للجيش في مرحلة معينة . ويستعد الذين يدفعهم دافع الثورة والتغيير أو دافع الأيديولوجيا لدرجة عالية من المخاطرة، ولعل فرسان التغيير في محاولاتهم الانقلابية على معاويه أبرز مثال فقد اندفعوا تحت وطأة مشاعرهم الوطنية دون إعداد كاف، فانتهى جهدهم بفشل عسكري وكارثة سياسية اعتقل على إثرها مرشحين للانتخابات الرئاسية بعد محاولة 2003 ، الأمر الذي يتطلب من أصحاب المغامرة الانقلابية المتوقعة أن لا يتسرعوا كثيرا ، فالفشل لا أب له .. والنجاح آباؤه كثر. وفي غالب الأحيان يدبر صغار الضباط عادة الانقلابات بدافع التغيير والثورة أوالأيديولوجيا، نظرا لأنهم أي صغار الضباط لم يتحولوا إلى جزء من المؤسسة الحاكمة، وليس لديهم شعور قوي بالرضا عنها أو بالانتماء إليها رغم أنهم في أغلب الأحيان أحسن تعليما وأعمق وعيا سياسيا واجتماعيا من كبار الضباط ، يضاف إلى ذلك عامل السن، فصغار الضباط عادة يكونون شبابا في العادة لديهم من الحماس والاندفاع ما ليس لدى كبار الضباط من الكهول ، ومن هنا يبرز بجلاء أن التفاوت في الظروف الاقتصادية داخل الجيش هو الآخر داعي لتحرك الضباط الصغار لفرض توازن في المؤسسة العسكرية وتجاوز هيمنة الضباط ذوي الرتبة العليا على المقدرات نتيجة تبوءهم المناصب القيادية في الجيش . 3 ــ الدافع الدستوري: والمقصود به تدخل الجيش بعد وجود خطر موضوعي يهدد وجود الدولة من أصله، كنشوب حرب أهلية ، أو فوضى عامة ، مع عجز الحكومة القائمة عن ضبط الأمور والحفاظ على وجود الدولة ، ولعل هذا الدافع يلغي بظلاله اليوم على مستوى الساحة الموريتانية ،وهو دافع كافي لتحرك الانقلابين للانقضاض على السلطة ، في ظل العبث بالدستور وتجاوز السبل الدستورية المعهودة لأي مراجعة دستورية مما يهدد وجود الدولة الموريتانية ووحدتها . 4 ــ الدافع المصلحي: أي مصلحة الجيش كمؤسسة، وذلك أن يتحرك العسكريون للإطاحة بحكومة لم تمنحهم ما يصبون إليه من تقدير مادي أو معنوي، أو ساقتهم إلى الهزائم والإهانة في ساحات المعارك، بسبب قراراتها السياسية الخاطئة ، ولعل انقلاب 1978 كانت تحركه بجلاء لا غبار عليه الدوافع المصلحية .. ويخاطر من يدفعهم الدافع الدستوري والمصلحي بدرجة أقل بشكل لا يعرضهم لفقدان أفضل مما يطالبون به مع تفاوت بين الاثنين ، حيث يخاطر ذوو الدافع الدستوري أكثر من ذوي الدافع المصلحي. 5 ـــ الدافع الإجهاضي: فقد يبادر عسكريون إلى تدبير انقلاب لم يكونوا يخططون له من قبل ، ولا كان في نيتهم ، لكن بدافع إجهاض انقلاب آخر اكتشفوا أن قوى سياسية أو أيديولوجية مناوئة تخطط له ،أو بدأت في تنفيذه ، ولعل انقلاب 2005 يدخل ضمن هذا البعد الدافعي ، ويتوقف مستوى استعداد الذين يدفعهم دافع إجهاضي للمخاطرة على مستوى الخطر الداهم الذي يتوقعونه من خصومهم السياسيين والأيديولوجيين الذين يخططون للاستيلاء على السلطة. 6 ـــ الدافع الشخصي: وهو الطموح إلى السلطة والثروة والمجد ، ويلجأ بعض كبار الضباط إلى الانقلاب بهذا الدافع، وهذا النوع هو الذي يمكن تفسيره بأنه مجرد حب للسلطة. 7 ــ الدافع الانتهازي: وهو مجرد استغلال لوضع غير طبيعي لاستلام السلطة دون تفكير مسبق في ذلك ، ولعل انقلاب 2008 نموذجا حيا لهذا الدافع الانتهازي . وفي الغالب الذين يدفعهم دافع الطموح الشخصي والانتهازي هم من الجبناء الذين لا يخاطرون، ولا يتجرؤون على تدبير انقلاب إلا إذا كان تنفيذه سهلا ونتيجته مضمونة، وكثيرا ما يكون انقلابهم من نوع "انقلابات القصر ". ومن سوء حظنا أن هذا الصنف الأخير هو أكثر الانقلابات نجاحا بموريتانيا لضعف هامش المخاطرة فيه، و أهله لا يحملون رسالة تغيير وراء التمسك بالسلطة على حساب الشعب ، ففي الغالب تحرك كبار الضباط الدوافع المصلحية والشخصية والانتهازية ، وفي جميع الحالات كلما ضعفت الحكومة المستهدفة وانعدمت شعبيتها تقوي دافع الانقلاب في نفوس الانقلابيين، ولعل نفوس الطامحين اليوم لقيادة عملية انقلابية بموريتانيا مواتية لهم من منطلق مدى السخط الشعبي الواسع النطاق على الرئيس وحكومته التي أصبحت عاجزة عن إدارة البلد سياسيا . قراءة في فرص نجاح الانقلاب القادم بموريتانيا ؟؟ تتجسد الفرص الضامنة لنجاح أي انقلاب في الظروف السياسية والاجتماعية والعسكرية العامة التي تشكل الحاضنة الشرطية لتسهيل عمليته ونجاحه ، فلكي تكتمل فرص الانقلاب العسكري القادم بموريتانيا يتطلب ثلاثة عوامل : أ ــ العامل الأول : ضعف أو انعدام الحياة الدستورية ففي موريتانيا تتحكم القوة أو العرف في انتقال السلطة فيها، وشعبها من الشعوب التي لا ترفض الانقلابات ولا تقاومها، بل تدعمها في أكثر الأحيان أملا في حصول " شيء ما " أفضل مما هي فيه ، فعامة الشعب يعتبرون الصراع على السلطة قضية "لا تهمهم من قريب أو بعيد بل شأن " من يهمهم الأمر " وحدهم ، ومنه يكون انقطاع الصلة التعاقدية القانونية بين القيادة المستهدَفة وشعبها، بما يفرزه من سلبية سياسية لدى عامة الشعب، هو الشرط الأول لتوقع انقلاب عسكري ناجح فالشعوب التي تطيع قادتها بسهولة دون مساءلة أو اعتراض، تتخلى عنهم بسهولة دون مساءلة أو اعتراض ، فسلبية الشعب الموريتاني فرصة مواتية للانقلابين وكل ما يحتاجونه ،على عكس الديمقراطيات المستقرة يتراكم لدى عامة الشعب فهم للمعنى القانوني للحكومة، وأساس شرعية القيادة، ولا يقبل الناس الانقلابات العسكرية، بل يتمسكون بمبدأ الشرعية، وإجراءات انتقال السلطة سلميا، حتى ولو كانوا يكرهون القيادة القائمة ، نموذج إفشال الانقلاب الأخير على أردوغان ، ورفض القوى المعارضة له للانقلاب عليه . ب ــ العامل الثاني : مركزية وهرمية السلطة ، ولأن الانقلاب في جوهره سيطرة على السلطة في المكان الذي يوجد فيه مركز القرار، بما يمكن من بسطها على سائر أنحاء البلد ، فمن المفارقات أن المركزية التي ينتهجها عزيز لشد قبضته على السلطة وحماية نفسه من معارضيه ، عامل لتسهيل الانقلاب عليه عسكريا ، فكلما كان النظام السياسي يمركز السلطة كما الآن في شخص واحد على نمط الدول الاستبدادية سهل ذلك إمكانية نجاح الانقلاب عليه . ج ـــ العامل الثالث :عدم وجود مظلة حماية للنظام المستهدف ، تمتلك الإرادة والوسائل لإجهاض الانقلاب عسكريا أو خنقه سياسيا بمنع الاعتراف بالقيادة الانقلابية، وتحريك فلول النظام المنهار ضدها ، والتواطؤ مع دول الجوار على عدم التعامل معها فإذا كان للانقلاب القادم أن ينجح ، فلا يكون ذلك إلا إذا خطط الانقلابيين لأمرين ، أولهما : التفاهم مع الدولة الحامية ، ثانيهما : التفاهم مع القوى الإقليمية لتوفير الغطاء الدبلوماسي للانقلاب ، خصوصا أن النظام الحالي يمر بمرحلة فتور وقلق في علاقاته بالدولة التقليدية الحامية وكل دول الجوار، وفي هذه الحالة بمستطاع الانقلابيين تنفيذ انقلابهم في الوقت الراهن بنسبة نجاح لا بأس بها ، ولكن في جميع الأمور مهم أن لا يغيب عن الأذهان إن الدول الكبرى كثيرا ما تتردد وتتراجع مراعاة لحساباتها الخاصة ، فلا تكفي القدرة العسكرية على القيام بانقلاب عسكري بل لا بد من الإرادة السياسية التي تخضع للحساب الداخلي ومدى الالتفاف الشعبي . وختاما أي انقلاب مستقبلي في موريتانيا لا تعدوا نتائجه من نتيجتين إما أن يكون مخرجا لتغيير هام وايجابي في المجتمع وبأسلوب أقل خطورة من آفاق الصدام والتقسيم التي يدفع عزيز نحوها موريتانيا ، وإما أن يكون منفذا نحو مزيد من مصادرة الحريات وفرض أسوء حكم استبدادي بالبلد والعودة بنا لما هو أسوء سوء من النظام الراهن . ************** *تنويه : اعتمدنا في هذه الورقة بشكل كبير على الدراسة التي أعدها الأستاذ الدكتور "زين الدين حماد"، أستاذ القانون الدستوري، في جامعة "برن" السويسرية / " كيف تصنع انقلابا عسكريا ناجحا ؟ "
دراسات المعهد المصري للدراسات السياسية والإستراتيجية
/ بتاريخ : 25 مايو 2016 .