أمبود الجسد الذي تسافر فيه السكين من الوريد إلى الوريد

أغسطس 24, 2013 - تحقيقات استقصائية

[امبود] أمبود أحدى مقاطعات ڱورڱول يقع على قارعة الطريق الرابط بين سيليبابي عاصمة ڱيديماغا المنسية ومدينة كيهيدي “عروس النهر” وتبعد عن عاصمة الولاية بحوالي 120 كم، إنها مدينة تتصدر قائمة الشرف بإمتياز في مجالات الفقر والجهل وكل مشتقات البؤس و هو ما لا تخطؤه عينك وأنت تجتاز أَدَبَايْ، أولى العتبات في الجسد المنفي داخل أكوام النار وأسوار القلق وحطام التاريخ، إنها إحدى أفقر المقاطعات، كما ترتفع نسبة الأمية فيها إلى 88.7% والفقر90%. أما من الناحية الجغرافية فهي إحدى مصبات فم لڱليته الذي يمتاز بخصوبة الأرض وقلة الأشجار الغابوية، وبالهضاب والمرتفعات الحجرية التي تتعانق حوله في حميمية مرهفة كأنها حضن يدفعك إلى اكتشاف هذا العالم “الماورائي”، و أما على المستوى الاقتصادي فأَمْبُودْ هي إحدى أهم شمامات ڱورڱول الموازية لسلسلة جبال الموريتانيد المعروفة محليا بكدية “وَاوَه”، مما يعطي الموقع طابعا تضاريسيا مغريا على صعيد السياحة. ولكن هذه المميزات لم تساهم في الرفع من مستوى العيش لدى السكان، بل حافظت عليه لتبقى هذه المقاطعة ركيزة من ركائز “مثلث الفقر” سابقا و”الأمل” على حد تبير الإعلام الرسمي.
 لأَمْبُودْ ميزة فريدة وهي أن كل مسميات أحيائه و قراه محلية: أَمْبُودْ أَدَبَايْ، ِليبَيْرْتِي، أَنْدُولًه، تَكُوبْرَا، شَلْخَتْ التِيَابْ، انْجَاجْبَني، لَكْنَيْبَة إلخ… ولا وجود للدار البيضاء ولا قندهار ولا بغداد ولا غيرها.إن جعجعة الأَمْبُودييــن غالبا ما تبدأ بالحديث حول منتوج الذرة الصفراء أو كما يقولون( أجْعٍيرْ أهَلْ امْبُودْ اعلَ مَكَةْ). في أَمْبُودْ ثلاثة طبقات اجتماعية متمايزة ومتابينة بشكل جلي على مستوى نمط العيش و التمظهر والتفكير، والثقافة والتدين:
1- طبقة مهمشة ومهشمة في قاعدة الهرم الإجتماعي، وهي تسكن أكواخا من الطين المبلط ببقايا الحيوانات هذه الطبقة تم سحقها وترويضها بالتخويف والترهيب والحرمان والتغييب والتدجين والتجهيل، فالعالم في واد و و هذه الطبقة في واد آخر لا ينبت إلا البؤس و الحرمان و إعادة إنتاج ثقافة العجز و الشعور بالدونية فالآخرون يفكرون ويدبرون نيابة عنها، وهي تؤمر وتستجيب دون أبسط تفكير حتى وإن كان الأمر بهدم مسجد أو قتل فرد أو حيوان أو عمل أو معصية، وذلك يبدو واضحا أكثر فالقانون بالنسبة لهؤلاء البسطاء مختزل في شخص واحد أو أسرة محاطة بهالة من الاحترام المبالغ فيه والتبجيل الذي قديقترب من التقديس و يعينها على ذلك ضعف السلطات المحلية وعدم حضورها. والغريب أن طبقة “البدون” هذه، لا تمتلك الأرض التي تعيش عليها و منها بل إن من يملك الأرض هم المتحكمون تقليديا و بذلك يتحكمون مصائر القوم السياسية والاقتصادية والدينية،و قد يصل الحد إلى حرمانهم من حرياتهم الفردية وكرامتهم الجماعية فهؤلاء لا يصلون حتى على موتاهم إلا بإذن أولئك أحيانا ولا يزوجون بناتهم إلا بقبول منهم وهم يطلقون ويزوجون ويحصدون دون أن يزرعوا. في أَمْبُودْ يصل يقوم رجال القانون بإهانة الدولة والقانون وتمجيد الشيخ حين يخر أحدهم على قدام شيخ تقليدي قائلا: ” نحن هنا نعرف أنه لولا بركاتكم يا شيخ لما استتب الأمر ولما أمطرت”، في أَمْبُودْ يجثم على صدور المزارعين قانون الملكية العقارية التقليدي و المتوارث ككنز من المعاناة والذي يجعل من أصحاب الأرض القدماء والحارثون الحاليون مجرد يد عاملة لدى مملكين لأمرهم من طرف السلطة، فغالبية الفلاحين عزفوا عن الزراعة ومن بقي تحت قهر الظروف لم يعد هناك بالنسبة له حافز للعمل، مادام العقد كله في صالح الآخر( ستعمل طالما يروق لي و أدفع ما يروق لي وستنفذ طالما أنا أريد). قانون الكاليغولا تنفذه سلطة تثيوقراتيك.
 شباب أَمْبُودْ غالبيتهم نزحوا إلى العاصمتين الاقتصادية والسياسية بحثا عن العمل ولقمة العيش بعد فشل السياسات التنموية في القيام بدورها الأساسي ألا وهو تثبيت السكان المحليين في أماكنهم وخلق توازن بين الحضر والريف عبر خلق المشاريع ودعم الفلاحين والمنمين والتجمعات النسوية من أجل الرفع  من مستوى المؤشرات الاجتماعية،لكن هجرة الطاقات الشبابية و البحث عن نمط جديد من الحياة جعل المقاطعة تهاجر تكون أحد أكبر التجمعات التي تحتضن الفقراء.
عندما تأخذ الدولة في التراخي و الإشراف على الخراب ويتمحور وجودها في الصورة الرمزية وتنقطع الرابطة الاجتماعية وتتزين أتفه المصالح الشخصية و أضيقها بثوب الصالح العام، عندئذ تصبح انتفاضة الضمير واجبا دينيا و أخلاقيا و إنسانيا.
 2. أما الطبقة الثانية فهي الطبقة التي تحاول أن تكون رغم المعوقات موجودة وذات وزن ولكنها غالبا ما تقع تحت سيف القهر المسلط عليها، وهؤلاء غالبيتهم زنوج أو حَرَاطِينْ لِيبَيْرْتِي التي أسسها السيد “فَابُو كُونْي” أحد المنسيين من تاريخ مقاومة فرنسا أيام الاستعمار الفرنسي في العشرينيات من القرن الماضي حيث كانت لِيبَيْرْتِي طوق النجاة للذين يفرون من نير العبودية تماما كما حي”جَانْبُورْ” والقديمة في ولاية العَصَابَة، وهذه الطبقة هي الوقود الذي يحرك الاقتصاد ويحاول أن يقوم بدور التنوير، رغم المضايقات التي يتلقونها من الدرك والسلطات الإدارية المحلية وتسييس الحكومة لأي مجهود يقومون به حتى المهرجانات الفنية لا تكاد هي الأخرى تنجو من المضايقات.
الفلاحون القدماء سُلبت بممالأة من الجهات الرسمية منهم أغلب أراضيهم لتمنحها للبيروقراطيين الجدد من خلال تسهيل استصدار أوراق الملكية العقارية لكن شباب  أَمْبُودْ كما أكد لنا كثيرون مؤمنون بأن ساكنة منطقتهم  ستخرج من الأقفاص الفكرية و المطبات الساسية و الاقتصادية فهي الآن تشرئب  بالأعناق إلى الخلاص.
  أمـا الطبقة الثالثة فهي “الأَسْيًادْ” من مشايخ قبلية ومن “أَشْرَافِ” أَمْبُـودْ، رغم أنك لا تكاد تمايز بينهم وأولئك المستضعفين إذ يتقاسمون كل المظاهر الخارجية ونصف التفكير، وتمتاز هذه الطبقة بما يسمى “لحجاب” والبركة والشعوذة وقد يصل بالواحد سحر فتاة إذا امتنعت عن الزواج منه، كأن يقول لها لن تتزوجي ما حييت، أو يسحر أهلها فيصابوا بعاهة صدفة فيتداعى إليه الناس خوفا وطمعا مأخوذين بما شاهدوا من خوارق. وليس من النادر أن يحكي لك السكان هنا عن قصة مفادها أن أحد الأحياء سحرهم أحد المعروفين بالخوارق ليثبت لهم أنه صالح فلا أحد يثمر حقله ولا تتزوج ابنته ولا تعيش له دابة حتى يتوب إليه راكعا خاشعا، كلها بالطبع قصص لم أقف عليها ليس لأني لم أبحث عنها، بل لأني تأكدت أنها أحداث صحيحة ولكن تفسيرها مغاير تماما لما سمعت عنه. وقد بلغ بي الحال أن تجرأت لأثبت زيف هؤلاء المشعوذين، بعد أن أقدمت على صيد أسماك من بركة قال أحد الشرفاء أنها مسكونة بالجان فاصطدت سمكتين كبيرتين وطبخت لنا إحدى زوجات عبد الباقي الكسكس مع السمك ولم يحدث شيء و أشهد أني ابتدعتُ سنة ستعيش منها تلك الأسرة التي كانت تأكل الماء بالطحين ورزق الله الحلال يموت على ضفة البركة متعفنا في الماء الآسن، وهذه الطبقة هي السلطة الفعلية والتي تحل غالبية المشاكل الاجتماعية المعقدة والتي قد تصل ببعض الأقرباء حد الاقتتال، ولكن تكفي إيماءة من أصبـع من هؤلاء ليتحول الموقف العدواني إلى أخوة وفورا ودون مناقشة، خصلة حميدة تذكر فتشكر لولا ما يمحوها من سيئات وفعل لا أخلاقي ولا إنساني. رغم أن أَمْبُودْ أحد أهم مصبات فم لڱليـة ورغم تاريخه الطويل في الفلاحة وموقعه الاستراتيجي الذي يتوسط ولايتين زراعيتين ورعويتين، إلا أنه لا يستفيد ولا يفيد لأن من أهم ما يميز مثقفيه هو التهرب وكأنه لعنة تطاردهم أين ما حلوا، ولكن لا يتذكرون الشاة إلا في الوقت الذي تكون فيه حلوبا، كالمواسم السياسية والتعيينات التي لا تأتي طبعا، والتي تحافظ لأي حزب حاكم على الأصوات ليضمن الفوز بمقاعد بلدية أو نيابية أو رئاسية وامتيازات أخرى، فلا تحسيس في أَمْبُودْ حول أهمية التعليم و ضرورته و لا الصحةالإنجابية ولا مخاطر الزواج المبكر ولا الخفاض الذي يطبّق وكأنه واجب ديني ورغم مخاطره لا يزال أئمة أَمْبُودْ يفتون بأنه سنة وأنه في مصلحة المرأة لأنه يحد من منسوب شهوتها الجنسي، في أَمْبُودْ لا صوت فوق صوت القبيلة، ومن حاول التمرد أو الخروج عليها فإن رؤساء القبيلة يكيدون له ليوقعوه في ورطة مع السلطات ثم يتدخلون لإيهامه بحلها كي يتذكر دائما أن من خرج عن القطيع أكلته الذئاب، واستمر ذالك الروتين إلى أن صدح صوت السيد”سيد ولد دمب” أحد الأصوات الشبابية الرافضة ليطالب بأرض أبيه الذي توفي، وللرجل قصة مع أهل الخرشي الذين يتهمهم باغتصاب أرضه سنين وبدعم من السلطات المحلية والجهوية القضائية والعسكرية في عهد المجلس العسكري الذي أطاح بحكم معاوية ولد سيد احمد الطايع، وبعد جهد جهيد أصدرت محكمة كيهيدي حكما يقضي بملكية جزء من الأرض لصالح “سيد ولد دمب”، وقد وجه بذلك صفعة للأسياد أكسبت المقهورين الثقة في النصر و أملا في انتزاع الضائع . في أَمْبُودْ يموت الناس من حمى الملاريا بإهمال الأطباء الذين يبيتون يلعبون الورق ويشربون الشاي كما حدث مع المريض “عبو إسماعيل”.الذي تم نقله إلى النقطة الصحية والتي تفتقر أبسط المعدات الطبية،ثم لفظ نفسه الأخير وحيدا ممددا على سرير متهرئ. لا نشاط ثقافي في أَمْبُودْ بل إن المناسبات الاجتماعية يتم مضايقة المواطنين فيها أحيث للفرح ثمن تقبضه السلطات  ولكن رغم كل هذا يبقى فقراء أَمْبُودْ كرماء طيبون، ومتدينون بما معهم من رصيد، فمع الفجر يشق الأذان إلى مسامعك طريقه، صوت جاف صامد كالطود مقاوم من أجل الحياة وهمهمات الرجال ملتحين يتسابقون نحو المسجد يتقدمهم شاب اعتلته ومضة من النور في لغته نبرة الدعاة. فلا يهمه من كل هذا شيء سوى أن يلقى الله بقلب سليم. في أَمْبُودْ آثار محققة عن عهود شعب عظيم في زمن سحيق بل هناك ما يشير أن أغلب ما يروى ويشار إليه وترويه الأساطير هو الجزء الأكثر إشراقا، هنا شعب يموت ويحيي على الأمل وهنا ثراء أنتربولوجي سيؤسس لكيفية اكتشاف حلقة من التاريخ مفقودة، لأن العادات التي نجدها قائمة في أَمْبُودْ تشهد على الأقل أنه كان لها أصل وثمة تقاليد ترجع لذلك الأصل وهي التي تدعمها الثقافات وتؤيدها الأدلة.
تحقيق بقلم: علي سيدي امزيريك
نقلا عن موقع"التبصير"