في أحدى مؤسساتنا التعليمية حضرت حصة لأحد الأساتذة سأل فيها طلبته عن شروط وجوب الجمعة فأجابه أحدهم: الإسلام و البلوغ و الحرية.. فأومأ برأسه إيجابا و تأكيدا على إجابة طالبه..!
فاستغربت وكدت انفعل لولا أن تداركني فضل الله و بقية من تؤدة كنت عاهدت الله عليها، و آليت على نفسي ألا أتجاوزها..!
العجب.. العجب.. كثيرة هي النخب التي تسعى إلى إثبات أن لا عبودية في موريتانيا، غير ما بقي يعشش في مخيلة حقوقيين يعرفون عن التجارة و فنون الكسب و الربح أكثر مما يعرفون عن الحقوق و المدنية و التعايش و السلام...
و لست هنا لإثبات وجود العبودية أو نفيه، فليس ذلك بالأمر المهم عندي، خاصة أننا جميعا نعرف الواقع و نعيش فيه، فنحن كما يقال "من أهل اتويميرت..." و طبعا "أهل مكة أدرى بشعبها"..
مجازا و ليس انحيازا: سأدعم رأيا على رأي "لا وجود للعبودية في موريتانيا، و إنما مخلفات اقتصادية و نفسية و ثقافية...و اختصارها " الجهل و الفقر "..
فإذا كانت العبودية غير موجودة و ما هو موجود لا يعدو كونه مخلفات فلماذا نعتبر الحرية شرط وجوب أو شرط صحة في كل عمل يراد به وجه الله؟ لا يمكن أن تكون الحرية حاضرة هكذا ــ في نُظُمِنا التربوية و التعليمية ــ إلا إذا كانت هناك عبودية.. أو ما يقوم مقامها..!
إن فساد منظومتنا التربوية وبعدها كل البعد عن تطلعاتنا لبناء دولة العدل المساواة لأمر جلل.. يجعلنا نشكك في قدرة هذه البرامج و المواضيع المقدمة في كل المراحل الدراسية على خلق جيل يؤمن بوحدته.. ساع في بناء وطنه... كما أن تعريبه تارة، و فرنسته تارة.. خلقت هي الأخرى شعبين مختلفين ــ في كل شيء تقريبا ــ لكل منهما ثقافاته و اهتماماته غير قابلين للتواصل...
كذلك تزايد الوعي في صفوف بعض الشرائح المهمشة و تنامي الحركة الحقوقية فيها سلط الضوء هو الآخر على هذه المنظومة التعليمية في بلادنا و جعلنا نتساءل هل لنظامنا التربوي القدرة على دعم ــ أو بناء ــ الوحدة الوطنية؟ و هل يُرْبِي هذا النظام الشعور بالمواطنة؟ من خلال مواده الأدبية و التاريخية.. و حتى الإسلامية... المقدمة في مختلف التخصصات و المراحل الدراسية...
قد يعتبر البعض أن برامج ما نسميه "التربية الإسلامية" في نظامنا التعليمي موجهة لخلق رأي عام ــ ليس طبعا من قِبَل الشرع و لا المشرع سبحانه ــ حاشى ــ و لكن من قبلِ مؤولي الشرع و شارحيه و واضعي هذه البرامج و مقرريها، ففي مجتمع لا يوجد فيه من العبودية غير مخلفات فسيولوجية ــ على رأيهم ــ أعتقد أن الحديث عن الحرية ما هو إلا نوع من إبراز "القيمة الضدية" لعكسها.. فـــبـــ"ضدها تعرف الأشياء".. و هو سعيٌ خفيٌّ لخلق جيلين منفصمين، أحدهما يؤمن حتى الثمالة بــــ"الحرية" و ضرورتها للعادات و العبادات.. و الآخر مغلوب على أمره..! إذا أستنكر هذا النوع من "التربية" في عدم دعمها للانسجام الاجتماعي.. و الوحدة الوطنية.. و المواطنة.. أتهِمَ ــ طبعا من قبلهم ــ برفض شرع الله. فهل شرعُ الله أن يكون فينا مجتمع مُسْتَعْبَد تعتبر الحرية شرطا لصحة و وجوب جمعه و جمعته و مختلف عباداته..؟!
قد يتهمني البعض ــ وكذلك يفعلون ــ بالسذاجة في الطرح و التفكير لقولهم ــ وهم صادقون في ذلك ــ إن التربية الإسلامية منظومة ربانية، لتقويم اعوجاج المجتمع، و تسديد خطاه، و لَمِّ شمله... فهل استطاعت برامجنا الإسلاموية ــ التي هي نتاج تفكيرنا و تأويلنا ــ توحيد مجتمعنا.. و نزع الشوائب الاجتماعية التي تئن "وحدته" تحت وطأتها؟و تهدد "تماسكه" و "انسجامه"..!
إن ما يهدد "الوحدة الوطنية" ليس مطالبة البعض بحقوقه المشروعة المغتصبة من قبل استعباديين، قسموا العباد و البلاد حسب مقاسات حددوها سلفا.. و إنما غياب تربية إسلامية مدنية حقيقية من نظامنا التعليمي.. و غياب الشراكة السياسية الفاعلة في واقعنا ألتسييري.. و تغييب الحوارات الوطنية الجادة من إعلامنا المسموع و المرئي..
إن سياسات الاحتواء، و فلسفة الاختزال، و الطمس الحضاري و الثقافي، الذي يمارس من البعض على البعض.. و تكديس السلاح، و التدرب على استخدامه جهارا نهارا، و غبن ذوي القربى.. كلها من ضمن أمور تنذر بمستقبل غامض ليس لــ"وحدة وطنية" وهمية قائمة في مخيلة البعض فقط.. و إنما أيضا نذير شؤم لأرض أقلت الجميع.. و سماء أظلته..
من المحتوم فشل سياسات التعليم، و مختلف إصلاحاته، لاعتمادها على الارتجالية، و بعدها عن اختلالات الواقع.. و ما يعانيه الناس.. و اعتماد مسابقاتها على النصوص الممجدة لرأس النظام "أمير المسلمين" و إنجازاته الواهية، و تزويرها للتاريخ، و ترسيخها للفئوية الضيقة.. و بعدها كلَّ البعد عن تنمية المواطنة، و التربية الإسلامية و المدنية.. و عدم تحديدها لمفاهيم الوحدة، و الوطنية، و التآخي، و التآزر.. و تمييعها لمفهوم الدولة، و القانون...
إن نظاما تربويا تعليميا "تربيته الإسلاموية" تغذي التفرقة في معانيها، و تئد التعاون في أبجدياتها، حريٌّ به الفشل.. و قد فشل.. و سيفشل..!
إن حماس اليد الممدودة لم يعد كما كان. في ظل الإمعان في تهميش البعض للبعض.. و المكابرة.. و النكران لما يعانيه... إن ما يهدد "الوحدة الوطنية" ــ حقيقة ــ مدعاة لأن تكون نفس اليد مغلولة إلى العنق..! و من يدري هل هي مغلولة فارغة.. أو مغلولة على مقبض...؟!