"المقاومة الوطنية".. حقيقة أم خيال؟/السالك ولد انل: رئيس منسقية وعي و قضية

خميس, 2014-11-27 18:09

ما شهدته موريتانيا من "مقارعة" للفرنسيين ليس مقاومة، و لا يمكن أن تطلق عليه تسمية مقاومة، لأنها لا تحمل في طياتها الدفاع عن كيان سياسي قائم بثقافته و وحدته الترابية، و سلطته القائمة التي ترفض الوافدين الجدد، لما في قبولهم من مسخ ثقافي و حضاري.. وهذا ما لم يكن متوفرا في تلك الحقبة من تاريخ بلاد السيبة، إذا ما الذي حدث؟ و لماذا تطلق عليه كلمة مقاومة؟

ما حدث هو حرب مصالح، و كر عصابات و فرها..! و لم يكن يحمل أبدا في ثناياه مشروعا وطنيا للأمة الموريتانية، أو الشنقيطية آنذاك أو الملثمة ، أما ما قام به شيوخ القبائل من  "محاربة للفرنسيين" فهو نتيجة للعديد من الأسباب منها:

ــ نكث الفرنسيين لوعودهم لأولئك الرؤساء، إذ كانوا يعطونهم بعض الهدايا مقابل الدخول و الخروج مِنْ وَ إِلَى حوزاتهم الترابية القبلية، فالذين نسميهم نحن اليوم بــ"أبطال المقاومة " هم من هادنوا الفرنسيين أو غالبيتهم، و كان من بينهم "جواسيس اللاشعور" حتى إذا ما رفض الفرنسيون دفْع الهدايا و دخلوا على الزعماء محلاتهم هربوا عنهم، فطاردهم الفرنسيون، فعندما يلحقوا بهم يحدث ما بات يعرف عندنا بمعركة من معارك المقاومة، قد تكون الغلبة فيها لرؤساء القبائل لمعرفتهم بالأرض و قوة تحملهم و إيلافهم للظروف المناخية القاسية، و خبرتهم ، بالتضاريس الوعرة، و قد تكون الغلبة في بعضها للفرنسيين لعدتهم و عتادهم.

ــ التناحر القبلي الذي كان سائدا و هو عبارة عن إغارات قبلية ــ غير مبررة ــ أباحت العرض و المال و النفس... مما جعل بعض زعماء تلك العصابات يغير وجهة إغاراته نحو الفرنسيين ــ ليس تلبية لدعوة جهادية أو تحررية ــ بقدر ما هو بحث عن بضائع استهلاكية جديدة توجد في القوافل الفرنسية و تفتقر إليها القبائل الموريتانية التي كانوا يغيرون عليها سابقا.

ــ ساهمت عمليات الحرابة و قطع الطريق التي كانت تقوم بها بعض القبائل.. في دفع بعض الزعامات التقليدية إلى الاستعانة بالفرنسيين مما ساعد في دخولهم بسلاسة للأراضي الموريتانية و استقبالهم بالورود..

إن كثيرا من عمليات إطلاق النار المتبادل بين "أبطال المقاومة" و الفرنسيين لم تستمر لأكثر من ساعة أو ساعتين، على عكس بعض الروايات الشفوية، نظرا للتفاوت الكبير بين الجانبين..

و لم يكن ما حدث في موريتانيا استثناءاً ففي العالم العربي كله من المحيط  إلى الخليج لم تكن هناك مقاومة بالمعنى ــ إلا إذا  استثنينا المقاومة الجزائرية فهذه لها بعض الخصوصيات التي تميزها عن غيرها..

 أما عن "المقاومة الثقافية" في موريتانيا فإن دور شيوخ المحاظر فيها ــ إن وُجِدتْ ــ كان ضئيلا إن لم يكن معدوما كانعدامها..غيرَ أن عددا من الشعراء لهم من "المقاومة اللسانية " أكثر مما لغيرهم فقد نادوا بحماية الموروث الديني و الأخلاقي  لمجتمعاتهم، أما بعض العلماء فإنهم استنكروا على  نظرائهم مهادنتهم للفرنسيين و هؤلاء المستنكرين لم يقاوموا و إنما هاجروا إلى بلدان أخرى، و استوطنوها و تجنسوا فيها، و لربما لو كان القطر  الشنقيطي يشهد مقاومة حقيقية مقنعة بالمعنى السياسي التوحيدي الجامع في ظل دولة واحدة قوية تذود عن الجميع وتحميه.. لأقتنع بها هؤلاء العلماء و انخرطوا فيها و شجعوها و لمَّا هاجروا، خاصة أن بعضهم طالب بقيام دولة موحدة قبل هجرته. و كان رفض شيوخ القبائل لتلك الدعوة و تناحرهم ــ علماء كانوا أو غيرهم ــ من أسباب هجرة نظرائهم إلى دول المشرق و الشمال العربي و الإفريقي.

زد على ذلك أن جميع الباحثين في تاريخ ما يعرف عندنا بــ"المقاومة" لم يضيفوا جديدا على الروايات الشفوية المتداولة بين أفراد القبائل الذين يريد كل منهم إبراز دور قبيلته  فيما بات يعرف بالمقاومة حتى أن بعضهم ــ أي الرواة ــ يعمد إلى نسج كثير من الحكايات تشويقا و تمجيدا وتصويرا لدور بطولي أقرب إلى الخيال منه إلى الواقعية.

 ثم إن هؤلاء الباحثين لم يبرزوا ذلك الدور الذي لعبته بعض شرائح  المجتمع المهمشة ــ في تلك الفترة ــ في حرب العصابات التي كانت تجري من حين لآخر بين أولئك "الذائدين حوزات قبائلهم الترابية" و الفرنسيين، مما طرح الكثير من علامات الاستفهام، و جعل الكثير من الشكوك تحوم حول مصداقية هذه الحكايات..

فلمصلحة من تم تغييب تلك الشرائح من سيناريو "المقاومة الوطنية"؟ و من المستفيد من تشويه تاريخ رجال من أمثال محمد ولد إمسيكه؟

فلم تذكر كتب التاريخ المدرسي بمختلف طبعاتها البطل الشهيد محمد ولد إمسيكه كــــ"مقاوم للاستعمار الفرنسي"، بل تجاهلته تماما، و تجاهلته كذلك حكوماتنا "الوطنية"، كما تجاهلته مجموعاتنا الحضرية و البدوية.. فلا مؤسسة تعليمية واحدة باسمه كما لا شارع باسمه و لا ساحة عمومية و لا أخرى خصوصية...

هناك ذاكرة وحيدة لم تنس ولد امسيكه، و لم تمحه الأيام و الليالي منها، هي الذاكرة الشعبية، غير أنها حرَّفت تاريخ الرجل و نضاله ـ لحاجات في نفس يعقوب ـ فذكرت عنه من عداء لِكْوَرْ ما لا يمكن تصديقه، و نسيت عداءه الشديد للمستعمر و معاونيه.. سواء كانوا أكور أو بيظان أو حراطين.. أو غيرهم..

و الهدف من تشويه هذه الذاكرة لسمعة الرجل واضح، هو خَلْقُ عداءٍ دائم و مستحكم بين الزنوج وَ شريحة الرجل الحراطين..! و استحالة أي تقارب محتمل بينهما..! نظرا للعداء التاريخي ــ المفتعل أو على الأصح المروي بينهما". فهل نجحت تلك الذاكرة "الأمينة" في مسعاها؟ وهل فرقت بينهما ؟

 

قد يكون من النوافل الحديثَ عن دور الحراطين و الزنوج معا في "مقاومة المستعمر" و "بناء الدولة" و الحفاظ على "الوحدة الوطنية"... شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الشرائح الوطنية الأخرى كما حافظوا على استقرار و أمن البلد.. و دافعوا عنه جنبا إلى جنب في أصعب الأوقات و أعتى المحن مع إخوتهم في الدين و الوطن.. فالوطن للجميع.. و استقراره يهم الجميع....

غير أن البعض يجاهد لربط الوحدة الوطنية بضرورة الوحدة بين شريحتي الحراطين و البيظان اللتين لا تعدوان كونهما مكونتين شعبيتين موريتانيتين، متجاهلا شريحة الزنوج.. و الوحدة على هكذا تصور لا تستقيم و هي نوع من "أحليب ألنَّاكَ فِ ألظَّايَ".. فصمام أمان وحدتنا الوطنية هو وحدة و اتحاد كل شرائح وطننا و احترام خصوصياتهم الثقافية و الحضارية و الاعتراف بأدوارهم التاريخية...

لم يكن لكور أعداءً لولد امسيكه في كل الأحوال، كما لم يكن البيظان أوفياء له في كل الأوقات..!

و لم تكن "المقاومة الوطنية" إلا وسيلة خيالية لخلق ماضي وهمي تاريخي مجيد فقط..! غير أن صانعيه ــ بألسنتهم و أقلامهم ــ لم يكونوا أمناء مع كل الشرائح الوطنية فتجاهلوا بعضها.. و همشوه.. و اختزلوه في غيره..