جاء في الأثر أن الخليفة عمر بن عبد العزيز، قد اتخذ أحد العلماء مستشاراً ، وقال له: " راقبني فإذا رأيتني ضللت فأمسكني من تلابيبي وهزني هزاً شديداً ، وقل لي: اتق الله يا عمر، فإنك ستموت " .
لذلك قد يكون الصمت أشد خطرا من الخيانة والجبن والارتزاق والتواطؤ، سيما حين يحتمي البعض من ماضيه بحاضر افتراضي مؤقت ومهتز ، ويعيد اختراع نفسه من جديد ، خشية ان يسقط الى مرتبته الدنيا ، فى حالة من عدم الامان والتردد مذعنة لحاجة متصلة للانتهاز والابداع فى التخاتل، مما يكرس لدى البعض حس المغامرة و ينمي قدرته على التحايل ، كي يستفيد وظيفيا أثناء تبادل الأدوار، وان لا يكون هو الضحية ـ على الأقل ـ فكلما هبطت تنويعة فى سلم التراتب النخبوي فى مجتمع او فى زمن بعينه كلما سهل الاستغناء عنها واستبدالها بغيرها .
وهذا هو الذي تسعىى إليه بعض النخب المستلبة ، التي تعتبر فى التحليل النهائى جزء من الثورة المضادة ، حيث ترتهن للآخر ، وتقترف جريمة الاستبدادا مع الحكام ، وتحتكر المنابر وتنشر الآراء المغشوشة في كل سانحة تتخلص فيها من خصومها المثقفين والمناضلين الشرفاء.
لذلك طفقت قيادات الدولة الموريتانية تحيط نفسها بحاشية أوبطانة من نوع خاص ، يعتقد أولئك المسؤولون ـ واهمون ـ أنهم قد يضمنون بها استمرارهم في مناصبهم لأطول وقت ممكن ، بغض النظر عن اعتبارات مصلحة الوطن والمواطن .
واستبعدت هذه القيادات في نفس الوقت بطانة أهل الخبرة التي يؤدي بها عادة المسؤولون عملهم في دولة القانون على أكمل وجه ، لأن البطانة الصالحة عادة تواجه الحاكم بأخطائه ، ولا تجامله في الحق ، خلافا لأفراد بطانة اخرى ينظرون في مصالحهم فقط ، ويعينون على الخطأ ولا يرشدون إلى الصواب .
كما هو حاصل في هذه الأيام في قصر المؤتمرات من تدمير متعمد للهوية الموريتانية وللدستور وثوابته مقابل التخلي عن فكرة التناوب على السلطة ، عندما جلبت الهيئات المشرفة على تنظيم (الحوار الوطني الشامل ) الذي تم افتتاحه في بلادنا يوم 29 /9/ 2016الغوغائيين المطالبين بعدم التداول السلمي على السلطة ، وتم استبعاد الطبقة السياسية الحريصة على الوحدة الوطنية ، و بدلا من ذلك تمت إتاحة الفرصة كاملة وبشكل مدروس ومنظم لرئيس حزب (قوس قزح ) الذي ألقى خطابا طويلا اتسم بالكراهية والدعاية المسعورة والصيحات الحاقدة ليوغر الصدور ويزرع الحقد في حنايا بعض المواطنين من أجل تمزيق النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية ، ليصلالأمرالى فجور في الخصومة ، وجرح متعمد وعميق للمشاعر الوطنية ، حتى أن دثار شعاراته قد تمزق سوى دثار عنصريته القبيح ليبقى عاريا.
ومع ذلك فإن خشية الجماهير من هذا الخطاب قد ضاعفها بشكل كبير أنهم لم يجدوا في خطب القادة السياسيين الذين تعاقبوا على المنصة ما يثبت تمسكهم بالثوابت والهوية ، ولم يعرضوا على الجماهير ورقة واحدة توضح ثوابتهم وبرامجهم ، كما أنهم لم يسمعوا ما يشفي صدورهم سوى كلمة الرئيس " بيجل " وصيحات الجماهير في قاعات القصر المنددة بالتجاسر الوقح على المؤسسة العسكرية المدافعة عن البلد ، والافتيات على البعثيين الذين ضحوا كثيرا من أجل هذا الوطن حيث تم اعتقالهم في سنوات : 1970 ،1971 ،1979، 1982، 1985،1987 ، 1988 ،1995 ،2003 ، وأثناء اعتقالات 1988 تم تسريح وفصل 417 من العسكريين من مختلف الصنوف بتهمة الانتماء لحزب البعث ، لذلك وصف أحد الكتاب البعثيين بأنهم :( نبتة ترتوي من الدم الذي يسيله الجلاد على أجسادهم ) .
ومع أن البعثيين كانوا في السجن ومسرحين تماما من الجيش الموريتاني طيلة المواجهة الحادة بين السنغال وموريتانيا فإن حركة "افلام" لم تغفر للبعث أنه دافع عن هذه الأرض بقوة من داخل السجن ، ولا زالت حتى الآن تخشى من البعثيين ، وتعتبرهم خطرا على مشروعها الذي يهدف إلى طمس هوية موريتانيا ، وتمزيق نسيجها الاجتماعي ، ووحدتها الوطنية ، مع علم الجميع بما في ذلك حركة "افلام" أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أجهزت على البعث وتسعى جاهدة لاجتثاثه ، ومع ذلك ظلت قوة البعثيين كامنة حتى تحققت في حقهم كلمات "أرنست همنغواي " حيث يقول (يمكن تدمير الرجل، لكن لا يمكن هزيمته ) ويقول أيضا( على الإنسان أن يتلقى كثيرا من المعاناة لكي يبدع) .
وإذا كان "أنطونيو غرامشي " يرى أن المثقف العضوي هو ذاك المثقف المرتبط بالجماهير الذي يعمل من أجل الشعب ، ويسعى وراء تحقيق هيمنته الثقافية ، فإننا قد شاهدنا في هذه الأيام يقظة نوعية لقادة البعث إثر خطاب "بالاس " وانطلاق (الحوار الوطني الشامل ) ،حيث يقول القيادي البعثي دفالي ولد الشين في مقال جيد عبر فيه عن مشاعر جل الموريتانيين رد به على كلمة "بلاس" التي ألقاها في قصر المؤتمرات بانواكشوط :
" أنا أعرف أن صاحب قوس قزح لا يريد تغيير اللغة فقط , فسوف يطالب غدا بتغيير كل الرموز التي تعبر عن عروبة وإسلامية البلد , والتي تضايق الكثيرين من أصحاب مشاريع المسخ الحضاري , وسوف يطالب بعد غد هو ومن معه بتغيير اسم الكيان الموريتاني , وإعادة رسم حدوده وتقطيع أوصال خريطته , فالعملية مدروسة في دوائر معروفة التوجه والأهداف والأجندات !" "غير أن ذلك لا ينتقص شيئا من لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة في أذهان الموريتانيين بمختلف مكوناتهم المجبولة على حب احتضان الإسلام ولغة القرآن إلى الأبد والدفاع عنها حتى آخر رمق" .
كذلك فإن القيادي البعثي الآخر د. محمد ولد الراظي قد رد بمعالجة علمية جيدة وأسهب فيها بشكل كبيرتحت عنوان (إلي المتحاورين... حول الهوية )
".. اتفق الجميع من مشرعين وساسة وفلاسفة وحكماء علي أساس واحد للإنصاف و العدل والقسط بٍين الناس: أن تتسم الدولة بسمات أغلبية مواطنيها وأن تحترم خصوصيات أقلياتها وأن تعدل بين الجميع.
وواقع الحال في هذا الزمان كما في الماضي أن الدساتير كلها نصت علي هذه القاعدة ولكن تجارب الحكم تفاوتت في احترامها لخصوصيات الأقليات واتفقت في ما يخص الأكثرية.
قد تجد دولا أقصت أقلياتها وهمشتها- وغالبيتها قامت بذلك بحماية الدول الكبرى التي تدعي رعاية الديمقراطية و حقوق الإنسان- وهو أمر معيب ومنكر....لكن لن تجد دولة يعيش أغلبية سكانها صراعا لإثبات الهوية....إلا موريتانيا ".
ومع ذلك فإن المشتركات الكثيرة التي تربط العلاقات الحميمة بين مكونات شعبنا لايمكن تجاوزها ولا الاعراض عنها ، ومعلوم أن من أهم المشتركات الخالدة لهذه المكونات ، هي الدين الإسلامي الحنيف ، واللغة العربية ، والوحدة الوطنية .
غير أن غالبة الشعب الموريتاني إذا كانت قد استوعبت لماذا استهدفت السياسة الاستعمارية بوضوح استئصال اللغة العربية من خلال عملية مزدوجة تتمثل في إقصائها بيداغوجيا والحط من شأنها ثقافيا، فإنها لم تفهم بعد لماذا حاربت بعض المكونات العرقية في موريتانيا اللغة العربية واعتبرت أن تدريسها يشكل خطرا عليها ، مع أنها لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ومفتاح الأصلين العظيمين الكتاب والسنة ، كما أن العمل بهذه اللغة هو مجرد إقرارللمادة 6 من الدستور، التي تنص على أن اللغة الرسمية هي العربية ، واللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسوننكية والولفية .
وإذا كانت اللغة العربية لم تكن هي اللغة الأم لبعض مكونات شعبنا ، فإن اللغة الفرنسية الوافدة مما وراء البحار، لم تكن لغة محتل حاقد فحسب ، وإنما هي أكثر من ذلك لغة معادية للحضارة الإسلامية والدين الإسلامي الحنيف ولغته الخالدة.وبما أن الأقليات العرقية غير الناطقة بالعربية ظلت تربطها وشائج قوية باللغة العربية ، مثل الدين والتاريخ والحضارة والعلاقات الاجتماعية بالمكون العربي في هذا البلد ، فإن الحجج التي يسوقها المتغربون من هذه الأقليات والقائلة : " بأن أبناءهم لا يعرفون اللغة العربية ، وأن التعريب تهميشا لهم " ، لا يمكن أن تكون مقبولة مطلقا ، لأن اللغة الفرنسية التي استبدلوها بالعربية لاتربطهم بها علاقة ، ومع ذلك فإن " كل مولد يولد على الفطرة .." ، فالطفل صفحة بيضاء ويستطيع أن يتعلم أي لغة بما في ذلك العربية التي سيحتاجها في صلاته على الأقل .
غيرأن المهتمين بهذا الشأن يعتقدون أن السبب الحقيقي وراء عزوف البعض عن تعلم اللغة العربية يرجع بالأساسإلى الإقصائية التي تنتهجها بعض الحركات المتعصبة من الأقليات العرقية في بلادنا والتي لاتقبل للمكون العربي أن يتمتع بحقوق الاغلبية ، حتى ولو كانت حقوق الاقليات مضمونة بصيانة تراثها وتدريس لغاتها ، ويستشهدون على هذا بأن أغلبية الموظفين من هذه الأقليات المحترمة يقضون أعمارهم الدراسية والوظيفية إلى جانب إخوانهم العرب ممتنعين عن تعلم أبجدية اللغة العربية والكتابة بها ، في حين أن إخوانهم العرب القادمين من المحظرة يحاولون تعلم الفرنسية ويبذلون في سبيل ذلك جهدا كبيرا ، ويؤيد هذا أيضا أن العربية منتشرة بين الأفارقة في السنغال ومالي وغانا وغانبيا واتشاد أكثر منها بين الأفارقة هنا في موريتانيا ، رغم أن فرص تعلمها في بلادنا أكثر وأوفر بكثير.
إلا أنه من الانصاف أن نسجل هنا أن غياب الحس الوطني والقومي لدى صناع القرارفي بلادنا هو بالأساس الذي مكن الفرنسية من الإعتراف بها كلغة للترقية الاجتماعية بدونها يصعب على المرء أن يشق طريقه في السلم الوظيفي حتى الان .