الذي يجري ، منذ بعض الوقت حول هوية لحراطين في موريتانيا ، هو جدال مفتعل ،لا صلة له بواقع حي،معيش، ولا أصل له في ما بين أيدينا من تراث شعبي .فمن أين جاء أصحاب النزعة الزنجية ،في حركة الانعتاقيين ،بالهوية الزنجية للحراطين ؟
وقبل الخوض في هذا الحديث لا بد من التأكيد على أن الهوية الزنجية ، شأنها شأن كافة الهويات القومية للشعوب ، هي موضع احترام و تبجيل و مساواة مع الهوية العربية ، ومع غيرها .إلا أن الهوية الزنجية ليس بمقدورها أن تذيب هوية أخرى بمجرد الرغبة في ذلك ، وليس في صالحها أن توظف كوعاء لإلحاق هوية لحراطين بها على نحو قسري فاحش .فالهوية للشعوب مثلها مثل قسمات الوجه و بصمات الأصابع و لون العيون و نوعية شعر الرأس و القامة للأفراد .وكما أنه لا سبيل لتغيير هوية الأفراد إلا بتدخل قسري يشوه خلق الله ، الذي أتقن كل شيء ،فكذلك هويات الشعوب لا يتأتى تغيرها إلا بتزوير عظيم يشوه وجودها و يحيلها إلى مسوخ باردة ،عاطلة عن العطاء و الحركة في التاريخ ؛فتستحيل مجرد ظلال باهتة لهوية أخرى .و كما تختفي الظلال بنزول المساء ،فإن الشعوب الممسوخة في مجال الهوية تختفي كليا في مساء الشعوب الماسخة لها .
ونعود للقول إنه من التعسف الحديث عن هوية زنجية للحراطين ،الذين يقاسمون الشريحة العربية الأخرى جميع روافد و مكونات الهوية العربية : فلحراطين يتكلمون اللغة العربية دون عجمة ، أو ركاكة شائنة في النطق ،و يتحدثون في شؤون حياتهم اليومية كلها بالحسانية بطلاقة متناهية ؛ وينتجون الأدب الرفيع بلسان عربي مبين ، و الأدب الشعبي بلسان حساني طليق .و لحراطين يتذوقون الجمال و يتمتعون بالموسيقى الحسانية و العربية بذوق عربي أصيل ؛ و هم يأكلون ذات الأطعمة العربية ، من ثريد و عصيدة ، و يمشون في الأسواق بذات الزي و ذات المشية ؛ و يشترون الأغراض نفسها ، و يتقنون ركوب الخيل و الإبل ، كما قال الرئيس مسعود ولد بلخير ، بالفنية نفسها التي يتربى عليها العربي في موريتانيا .ولحراطين يحلبون الإبل و يشربون لبنها و يأكلون لحمها ، بخلاف الزنوج بجميع فئاتهم .و لحراطين ينفعلون بالأشياء و يحتكمون في قيمهم الاجتماعية و عاداتهم و أخلاقهم إلى القيم و الأخلاق و الأذواق و المشاعر العربية .
والذين يسعون في تشويه وعي أبناء لحراطين .و يزورن هويتهم يدركون أنهم يكذبون ، ويلفقون واقعا بعيون مقروحة بغية الظفر بالمال و النفوذ عبر الاستعانة بقوى أجنبية لها تاريخ حافل بالعبودية و احتقار الإنسانية و امتهان الكرامة الآدمية للناس و اضطهاد الشعوب .فالعمالة للأجنبي سم ،ولكن حلو المذاق .فالقوى الغربية ،والولايات المتحدة الأمريكية ،تحديدا ،تعمل على سرقة أوطان الشعوب من بين أيديها بدفعها إلى الاحتراب فيما بينها ، كما فعلت في أكثر من بلد إفريقي و عربي .و إذا ما نجحت في أهدافها التحطيمية ، رمت بعملائها في أقذر مكان ، وتركت الشعوب المغرر بها تبكي على أمسها .إن الذين يزورون هوية لحراطين بزعم زنجيتهم ،إنما هم باعة ذمم و مقاولين بالضمير وبكل ما هو منطوي على جناية على الإنسانية ؛ وهم مطرقة هدم في أيدي الأجنبي ، و شفاه مرتجفة تتغنى بمعاناة لحراطين على إيقاع طبول القوى الأجنبية ، التي جرت كل أنواع البلاءات و الصراعات و الحروب على وطننا العربي ، وعلى الإسلام و المسلمين ،بخلاف المناضلين الوطنيين من هذه الشريحة ، ومن كل الشرائح الاجتماعية التقدمية في البلاد ، الذين يعملون لإنعتاق لحراطين و إنهاء معاناتهم و تهميشهم ضمن وعائهم القومي العربي إلى جانب المكون العربي الآخر ، و في إطار التأسيس لسلوك مدني ،حضاري و إنساني في دولة المواطنة و سيادة القانون ، و الاستقلال التام عن الارتهان للأجندات الامبريالية الغربية .فعلى النخب الحداثية ، من كل الفئات و الأعراف ، أن تتصدى للاستعباديين ، مثلما أن من واجبها أن تتصدى بذات القوة و الصرامة لهذا التزوير المزعوم و المفضوح لهوية لحراطين ، الذين – بكل ثقة نقولها – سيحملون شعلة الحرية و التقدم و الإنسانية و البناء في موريتانيا ، متسعة لكل أبنائها ، دون عبودية أو تهميش لأحد منها ، فالمستقبل في قيادة البلاد بأيدي لحراطين .وعلى الأسياد في الماضي أن يتفاعلوا إيجابيا مع هذه الحقيقة التاريخية ، و على لحراطين ألا يتركوا هذا المستقبل يتبخر أمامهم بضياع موريتانيا ، أو يضيع من بين أيديهم بفعل أدوات الخبل و الإجرام التي تجندها المخابرات العالمية لتحطيم الحضارات و إهلاك الشعوب .فهؤلاء وجودهم خدعة إعلامية ، و برامجهم خيال كاذب و أوهام.و هؤلاء و ثقافتهم التدميرية في طريقهم للزوال بسبب قذارة منهجهم و بسبب الوعي الوطني و القومي المتزايد للانعتاقيين الوطنيين من شريحة لحراطين نفسها ، ومن النخب التقدمية الأخرى ، التي ناضلت في الماضي البعيد ، و تناضل ، الآن ، من أجل انعتاق هذه الشريحة و الشرائح الأخرى المغبونة تاريخيا في مجتمعنا ، بدون متاجرة بهذه القضية الوطنية المركزية .فعروبة لحراطين عصية على الطمس لان عروقها و جذورها في هذه الأرض عميقة جدا و لأنهم كانوا ،كما قال سينغور ،زيت الحياة ، وغدا هم أسلحة معركة الحرية مع القوى الظلامية و الرجعية لإنهاء مظاهر الخلل الإنساني في تاريخنا الاجتماعي ، في مجتمع عربي ، إفريقي مفعم بالمحبة و الاحترام و حق الاختلاف و التسامح ، و مشبع بروح الإسلام ،دين الرحمة و الإنصاف و الحرية و المساواة ، لا فضل فيه لعربي على زنجي إلا بالتقوى و إلا بدرجة خدمة الناس ،بعيدا عن إرهاق المجتمع بالعبودية أو آثارها ،و بعيدا عن القطيعة و ثقافة التحريض و الكراهية الفئوية الهدامة، اللتين تعمقانهما تلك المسوخ و النعوش المتحركة بأموال الأجنبي و إعلامه .