
قبل عشرين سنة فقط، لم يكن في ذلك الجزء الشرقي من موريتانيا من سمع كلمة كهرباء – إلا قليل منهم- ، سمعناها أول مرة في خطاب للرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، استفسرنا كثيرا عن دلالتها، سمعنا قصصا مرعبة عن رجل مات على هيئته التي كان يجلس بها قرب عمود كهربائي متخذا منه سترا، وعن نقل الماء والمعادن له، وعن مقاومة الخشب لتياره، وارتباطه بانتشار اللصوص.
في ليلة مشؤومة من ليالي ست وتعسين وتسعمائة وألف، سرت في المدينة الوادعة شرقا شائعات أن "كرانه ليه ينقد" ستشغل الكهرباء..
لا أنسى مشهدا رائعا من تجمع نسوة وهن يتنادين لرؤية نملة تمشي على الأرض، وحين حدثت إحداهن صديقة لم تحضر المشهد لم تصدقها.. ردت "أوه م بولغك" أنت تبالغين، وأصرت المجروحة في شهادتها أن تنتظر حتى ليلة غد وتجلب معها صديقتها وتريها نملة تمشي على وجه الأرض ليلا تحت عمود الكهرباء الوحيد في الشارع المحاذي لبيت جيرانها.
في إحصاء للسكان والمساكن قبل ذلك بمدة سأل أحد العدادين شيخا وقورا في حينا أي أداة يستخدم في الإنارة.. كان رده "شمعة مولانا" أي سراج الله.
سراج الله هذا الذي وهبه لنا قبل خطاب النعمة التاريخي لم يكن سراجا فقط، كان صديقا كتوما، ورفيقا مأمونا، ومنصتا نبها، ومشجعا منضبطا للمتنافسين.
يناجيه العاشقون في خلواتهم، يفضون إليه بما كتموا عن أنفسهم، تعانقه أصوات المرتلين القرآن ليلا، وعلى ضوئه تسهر القيان على "أشوار الظل"، يرددن " القمر أظهر .. والمشي ازيان" فيثرن في "وجاد" شجى الفراق، فيسرج سار يسابق القمر مستعجلا غيوبه.. وحدهم العاشقون كانوا يستعجلون غياب القمر منذ أيام ابن ربيعة ، وحتى خطاب النعمة،.. لا لا ليسوا وحدهم، ناهبوا المال العام - أيام كان نهب المال مذمة- كانوا يكرهون القمر أيضا.
كان القمر كريما، لم يمنن علينا مرة أن أضاء دجانا، ولا أرسل إلى معسرنا فاتورة حين يصير محاقا، كان أبي النفس، إذا شعر بوهن شديد، اعتذر، غاب ليلتين أو ثلاثا، ثم أطل علينا نحيفا من الجهة الأخرى، يأتي نحيفا ليثب لنا انه لم يستطع انتظار تمام عافيته، ونحن أيضا كنا طيبين جدا، نتسابق لرؤيته، نهنئ بعضنا بقدومه، ونحيطه بعطفنا حتى يكتمل بدرا.
أيام كان القمر سراجنا كنا ودودين جدا، نلعب "أمبالة" و"قرقدية" و"كورة" و"أم الطالبات"، لم نكن سمعنا حينها بشقيف ولا الباشق، ولا بات مان أو النمر المقنع.
كانت شخصياتنا المفضلة "عبد الرحمن" و"محمد صيكة" و"باب".. والسلطان وابنته الجميلة التي ينقذها شاب شهم، فيرفض أبوها تزويجها به،.. أي من جيل ما بعد خطاب النعمة يذكر شيئا من ذلك الآن؟
القمر اليوم في حالة يرثى لها، لم يعد العاشقون يناجونه، لقد أتاح لهم الاتصال المرئي فرصة اللقاء.. بل لا أبالغ إن قلت إنهم ما عادوا يشتاقون أصلا إلى محبوباتهم..
لم يعد المرتلون يعانقونه بأصوات تلاوتهم، قضت على ذلك أشرطة القرآن الجاهزة.
حتى مزورو بطاقات التصويت لم يعودوا يخشونه، بعد قدرة "الباء" على الطيران.
لم يعد هناك من يشفق عليه حين يني، ولا من ينتظره حين يغيب، بل ربما نصف من وصل إلى هذا السطر لا يعرف أي شهر مر نصفه.
ناطحات السحاب التي بناها من كانوا يستغلون غيابه باتت تحجب ضوءه.
إننا جميعا مدينون له باعتذار، على الأقل نحن الذين سمعنا كلمة كهرباء أول مرة منتصف تسعينيات القرن الماضي..
عن نفسي أعتذر أيها القمر..
سأظل أشتاق إلى رؤيتك وحيدا في سمائي، وسيبقى ضوؤك الهادئ ملهمي، وستبقى الصديق الوحيد الذي أفضى إليه أسراري.. سأظل أحدثك دائما عن حبيبتي، وعن أحلامي، وعن مقتي للدولة.
(الصورة لبديل عن القمر حيث لا يضيء غيره)