لا يحتاج شبابنا اليوم إلى أي شيء كحاجته إلى بناء جسور الثقة والحوار فيما بينه، مهما كانت خلافاته الفكرية والسياسية. ولعلّ أهمّ طريق إلى ذلك هو بناء الشخصية المعتدلة المتزنة التي يمكن أن تحاور الجميع وتنفتح على الجميع.
ويتمّ بناء هذه الشخصية من خلال عدة أمور منها:
ـ الاطلاع قدر الإمكان على ما يكتبه الآخرون عن فكرهم ومناهجهم وما يقدمونه من مشاريع في الحكم والثقافة وبقية إشكاليات المجتمع.
ـ الاطلاع حسب المتاح على ما يكتبه الآخرون من نقد تجاه ما تحمله هذه الشخصية من أفكار، واتجاه مشروعها السياسي إن كان موجودا ..
ـ الاطلاع على المتاح ممّا يكتبه الآخرون من نقد وتمحيص عن أنفسهم، وعن المشاريع المناوئة لهم، بما فيها المشاريع التي ينخرط فيها الشخص المعني.
ـ الاطلاع على ما يكتبه المحسوبون على الإطار الذي تنتمي إليه هذه الشخصية، من نقد وتمحيص وتقييم، وما يقترحونه من تطوير، بدل الانتماء الأوتوماتيكي المتحمس المتعصب من جهة، والكسول السلبي الجامد من جهة أخرى ..
ـ الاحتكاك المباشر بأهم الفاعلين في الأطر السياسية والفكرية المناوئة، لأن في ذلك كسر لكثير من الحواجز النفسية، والحوار المباشر الذي يحوّل الصراع الأبدي الإقصائي إلى تنافس إيجابي، إن تمت إدارته بالشكل المطلوب.
ـ البحث عن المشترك بين الجميع وتنميته وتطويره، بدل الارتهان للمختلف فيه فقط، فبعض الأحيان يكون المشترك أكثر بكثير من المختلف فيه، لكن يطغى الخلاف ويقود إلى الاختلاف، فيتم قتل المشترك رغم محوريته وأهميته لصالح المتخلف بشأنه، رغم ثانويته، وكل ذلك ترجمة للإمعان في الذاتية وعدم النضج، والتطرف في الولاء لكل إطار ..
إن الانغلاق على إطار واحد فكري أو سياسي، وتكريس كل الوقت لتمجيده، وقراءة مآثره، ومعلقات سبّ خصومه وشتمهم، قد يساهم في الشحن العاطفي، وفي الحماس "الولائي"، كما قد يساهم في الصدام بشكل فعلي وجذري، لكنّه لن يساهم في تطوير المشاريع السياسية والفكرية بكل تأكيد، ولا في انتشارها بالسرعة المطلوبة، ولن يجعل الآخرين يطمئنون إليها كمنافس يمكن التناوب معه، بدل العمل على إقصائه من خلفية الحذر من إقصائهم من طرفه..
إن شبابنا اليوم ـ كل شبابنا ـ مطالب أكثر من أي وقت مضى، إلى التعارف أكثر، والحوار أكثر، من أجل بلورة أرضية مشتركة تجعل كل لون سياسي أو فكري أو عرقي، يشعر أن الآخرين منافسين له في البناء والتطوير، بغض النظر عن اختلاف الوسائل والمشاريع التي يقدمون، وليسوا خصوما أو أعداء أبديين، يريدون القضاء عليه وفناءه ..
إزاحة "الفيتو"
إن الشعور بالثقة اتجاه من نخالفهم، وشعورهم بالثقة اتجاهنا، هو الضامن الوحيد، لإزاحة "فيتو" بعضنا ضد بعض، وهو "الفيتو" الذي قتل ويقتل كل المشاريع الوطنية الجادة والمسؤولة، ويُحِل محلّها أحكاما فاسدة أو دكتاتوريات ظالمة، أو صراعات مدمرة عبثية...
لذلك يجب البدء ببناء الشخصية الشبابية المتزنة، وليس بالضرورة الشخصية المائعة أو الكسولة أو السلبية .. ولا يعني الأمر هنا دعوة الناس للتخلي عن ما يحملونه من أفكار، ولا ما يطمحون إلى تجسيده من مشاريع، بل يعني تهيئة الأرضية المناسبة لذلك، ليشعر كل أصحاب مشروع سياسي وفكري أنهم بمأمن عن الإقصاء والاجتثاث حتى ولو كان بيد منافسيهم كل وسائل القوة والسلطة .. إننا بحاجة إلى بناء ثقة مشتركة .. من أجل بناء وطن مشترك.
يجب أن نسأل أنفسنا جميعا وبشكل مستمر، لماذا استطاع الآخرون ـ في المجتمعات المتحضرة ـ ترجمة خلافاتهم في الرؤى وتباين المشاريع السياسية والفكرية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن القومي إلى الوطني، ومن المحلي إلى الأممي، ومن الديني إلى العلماني، في ممارسات ناضجة وسلمية؟ ولماذا استطاعوا تجسيد هذا التباين والخلاف في ممارسات اختيارية هادئة، سمحت لهم بالتعايش والتناوب على السلطة جيئة وذهابا، في وقت عجزنا فيه عن التعايش في فضاء نظري إلى الآن؟ بل في بعض مجتمعاتنا ـ العربية والإفريقية ـ وصل الأمر إلى الحروب والدمار والخراب؟