هناك عادة يبدو أنها آخذة في الانتشار منذ بعض الوقت في الخطاب السياسي للموالاة تصف خطاب كل من يتحدث في بعض المشكلات الاجتماعية الحقيقية التي يعاني منها جزء كبير من مجتمعنا وبالتالي مجتمعنا ككل بالخطاب الفئوي ...
وهناك عادة أخرى تقابلها عند الطرف الآخر تتمثل في نزعة ارتكاسية مرضية تتمثل في رد فعل غريزي لا يؤدي إلى الكراهية فحسب وإنما أيضا إلى تعميق الانقسام الأفقي للمجتمع من خلال دغدغة العواطف والتلاعب بها بطريقة خطيرة جدا قد لا يقدّر أصحابها بشكل دقيق مقدار خطورتها..
ونتيجة لذلك ظهرت بعض النزعات غير المسؤولة الهادفة عن قصد أو عن غير قصد إلى ضرب العمود الفقري لمجتمعنا الذي يشكله المكون العربي بأطيافه المختلفة.
أردنا من خلال هذا المقال ومن منظور أكاديمي صرف التمييز بين الخطاب الفئوي العنصري وبين النضالات السياسية النزيهة أي بين المشروع واللامشروع في الخطابات الحقوقية المتعلقة بقضية الحراطين...
في البداية اعتقد أنه لا بد من تغيير الصورة النمطية والنظرة الاستاتيكية الجامدة إلى بعض الفئات الاجتماعية التي تصنعها في العادة المخيلة الشعبية فتعودنا عليها وأصبحنا نرى الأمور من خلالها ونغض الطرف عن قانون التطور الذي هو القانون الأساسي الذي يحكم سير المجتمعات . والمشكلة هي أننا لو بقينا في هذا المستوى من النظر إلى الأمور فإننا سنظل نتعامل مع تلك الفئات بتصورات هي بعيدة كليا عن واقعها الراهن وعن التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع ككل وبالتالي نخطئ في تقديرنا للواقع وطرق التعامل معه :
[["المعلمين" أصبحت فيهم نخبة لم تعد تنطبق عليها تلك الأوصاف وتلك الصور الكاريكاتورية (ما تلاو يربّطو الگدحان)
("إيگاون" فيهم وحدين ما تلاو يقولو شي زين)
("الحراطين" عادوا فيهم وحدين ما هم أغبياء ...إلخ)]]
والحقيقة هي أن للفقر أسبابا عديدة في مجتمعنا طبيعية واجتماعية وحتى ثقافية ودينية تتعلق في بعض جوانبها بفهمنا للدين وطغيان النزعة الصوفية القائمة على الزهد في الدنيا وأسبابها لكن التصحر وندرة الموارد والحروب القبلية وإهمال الرسالة الحضارية للدين الإسلامي ليست هي وحدها أسباب الفقر في مجتمعنا بل هناك أيضا أسباب اجتماعية تاريخية من أمثلتها العبودية.
ومن هنا فإن للفقر أسبابا كثيرة في مجتمعنا بعضها جوهري يتعلق بوقائع اجتماعية تاريخية معروفة تنجم عنها بالضرورة في كل زمان ومكان أوضاع مادية ملازمة لها كالفقر ومعنوية مثل النظرة الدونية ، وبعضها عرضي ناجم عن عرضية الظروف الاجتماعية والتاريخية (كالجفاف ، وسوء التدبير ، والعقليات والكفاءات والمهارات الخاصة... إلخ).
لذلك فإن الفروق قسمان : فروق جوهرية تتعلق بالملكة والعدم كما يقول المناطقة : من شأنها أن توجد ولا يمكن أن لا توجد ، وفروق عرضية قد توجد وقد لا توجد حسب الظروف.
الفروق الجوهرية هي التي من شأنها أن توجد وليس في الإمكان ألا توجد بالنظر إلى الحتمية التاريخية التي تحكم العلاقة بينها وبين النتائج المترتبة عليها في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية..أما الفروق العرضية فلا توجد فيها علاقة ضرورية بين الأسباب والنتائج لأنها قد توجد وقد لا توجد لظروف عرضية محضة.
ومن أمثلة الفروق الجوهرية في المجتمع الموريتاني تلك الناجمة عن ظاهرة الرق وهي توجد بالضرورة في كل المجتمعات البشرية التي عرفت تلك الظاهرة وبالتالي ليس ثمة اختلاف بينها إلا في حجم تلك الظاهرة ووطأتها. ولعل من أبرز الآثار المترتبة على تـلك الظاهرة انعدام الملكية والنتائج المترتبة عليها مثل :
- المشكلة الاقتصادية : الفقر والتهميش والجريمة وجنوح الأحداث ...
- المشكلة التربوية : الجهل والتسرب المدرسي وما ينجر عنه من انعدام الكفاءات الضرورية للحصول على الوظائف في الدولة
- الآثار النفسية والاجتماعية : التراتبية الاجتماعية والنظرة الدونية
أما الفروق العرضية فهي ناجمة عن أسباب عرضية يتساوى فيها الجميع وهذه هي حال بعض الشرائح الأخرى في المجتمع الموريتاني.
لكن ضحايا هذين النوعين من الفروق (الفروق الجوهرية والفروق العرضية) قد يوجدان من الناحية الظاهرية في ظروف متشابهة لكن الاختلاف بينهما يكمن في تأثير غياب الملكية للأسباب التي ذكرنا.
بناء على ذلك فإن العمل بمبدأ المساواة أمام القانون والمساواة أمام الفرص وهي الدعوى التي يتذرع بها الكثيرون يقتضي وجود حالة من المساواة الأصلية في المجتمع بين مواطنين أحرارا ومتساوين لكن بما أن المساواة الأصلية لم توجد يوما نظرا إلى انتشار العبودية في المجتمع إلى عهد قريب جدا فإن المساواة الصورية أمام الفرص التي نتحدث عنها هنا هي مجرد مساواة صورية تتنافى في الواقع مع العدالة.
إن وجود العبودية معناه انتفاء الملكية وانتفاء الملكية معناه الافتقار إلى الأسس الضرورية لبناء الشخصية في كل النواحي : التربوية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية ..بل الافتقار إلى الإنسانية ذاتها ! فهل هناك مكون آخر من مكونات مجتمعنا يشارك الحراطين في هذا الوضع ؟ هذا الأمر لا يعني الاستهانة بمعاناة المكونات الأخرى من الفئات التابعة تقليديا لكن وجود الملكية الدائم لدى هؤلاء جعل الفروق التي يعانون منها تندرج في نطاق الفروق العرضية التي يمكن أن توجد ويمكن ألا توجد والتي تتعلق أساسا بالنواحي النفسية والاجتماعية.
بناء على ذلك لن يكون في الإمكان العمل بالمساواة أمام القانون في ظل وجود هذه الاختلالات :
مثال :
هناك مسابقة في مجال معين
هناك شروط محددة سلفا للمشاركة وكفاءات مطلوبة منصوص عليها
القاعدة : الأشخاص الذين يتمتعون بكفاءات متساوية لا بد أن يحصلوا وفقا لمبدأ المساواة أمام القانون على حقوق متساوية.
السؤال الذي يطرح نفسه هو :
أنا الذي لأسباب تاريخية موضوعية لا تتوفر لدي الكفاءات المطلوبة المنصوص عليها بحكم القانون كيف يمكنني أن أستفيد من المساواة أمام القانون في هذه الحالة ؟!
هذا هو ما دعاني في الكثير من المحاضرات من منطلق علمي أكاديمي إلى الحديث عن فروق جوهرية هي الأصل في معاناة الحراطين.
وعليه فإن العمل بمبدأ المساواة أمام القانون في هذه الحالة يتعارض مع العدالة وهذا يعني أن الفجوة ستظل قائمة بينهم وبين إخوتهم وستتسع مع مرور الزمن وستكون لا محالة بؤرة لتوترات اجتماعية لا تنتهي .
حتي ولو وجدت مساواة نظرية على المستوى القانوني والدستوري وعلى المستوى الشكلي في الحياة السياسية فإن المساواة الفعلية تظل موضوعيا مطلبا بعيد المنال نحتاج في تحقيقه إلى تغيير الواقع المادي العنيد وهو أمر لا يمكن أن يتم بين عشية أو ضحاها ، وتغير العقليات والصور النمطية الراسخة في الذهنية الاجتماعية وفي نسق التمثلات المرجعية للفرد في مجتمع لا يزال تقليديا في بنيته وتصوراته.
المدرسة الموريتانية الحالية (وخصوصا المدرسة العمومية للأسف) تمثل نموذجا للمساواة الصورية أمام القانون بين مواطنين أحرار لكن غير متساوين في الأصل وعليه فإن المدرسة في شكلها الحالي تعيد إنتاج الفوارق الاجتماعية لأنها أصبحت في جزء أساسي منها مأوى لفئات اجتماعية بعينها نظرا لوضعها الاقتصادي المتردي للأسباب التي ذكرنا.
ولمواجهة هذا النمط من المشكلات قرر فلاسفة السياسة وعلماؤها أن الحل الأنجع يكمن في العمل بمبدأ التمييز الإيجابي ولا شيء غيره باعتباره الوسيلة الوحيدة لتحقيق العدالة التوزيعية علاوة على أن تطبيقه قد يساعد مجتمعنا مع مرور الزمن في خلق حالة المساواة الأصلية الشرط الضروري للعمل بمبدأ المساواة أمام القانون.
والخلاصة هي أننا لا نرى أن المقاربة الأمنية أو المقاربة السياسية هي الوسيلة المناسبة لمعالجة هذا النوع من المشكلات لأن المعالجة الحقيقية لكل مشكلة لا بد أن تنطلق أولا من الوعي بها وتحديد أسبابها الحقيقية والعمل على الحد من تأثيراتها بالنظر في طبيعة الحلول المناسبة لها بطريقة لا تؤدي إلى خلق مشكلات أخرى.
ومع أن التمييز الإيجابي هو الحل الوحيد لهذه القضية إلا أن المشكلة تكمن في أن الكثيرين يرفضون التمييز الإيجابي وهم لا يعرفون ما هو التمييز الإيجابي ويختزلونه في مظهر بسيط من مظاهره المتعددة التي قد لا تكون مناسبة في سياق معين ومناسبة في سياق آخر. كما أن الكثيرين يتحدثون عن ضرورة إعادة توزيع الثروة ولكنهم لا يعرفون ما هي إعادة توزيع الثروة فما هو التمييز الإيجابي ؟ ولماذا التمييز الإيجابي ؟
مبدأ التمييز الإيجابي يتجاوز البعد السياسي إلى الممارسة اليومية والسلوك الاجتماعي الذي نمارسه كل يوم في حياتنا : داخل الأسرة بين أبنائنا وفي مواشينا بين أفراد القطيع ...
ومبدأ التمييز الإيجابي باعتباره شكلا معينا من ممارسة العدالة هو الآلية التي تسمح للأقل حظا في المجتمع من الاستفادة أيضا من التفاوت طالما أنه لا مناص منه ونعني هنا التفاوت الناجم بفعل التراكمات انطلاقا من حالة المساواة الأصلية لأن كل اتفاق منصف وكل عقد اجتماعي مهما كان عادلا يؤدي مع مرور الزمن إلى حصول تفاوتات يتعين على النظام السياسي تقديم حلول مناسبة لها أما التفاوت الناجم عن عدم وجود المساواة الأصلية فلا يمكن تجاوزه إلا بالتمييز الإيجابي الذي يعيد للمجتمع توازنه لكي يستمر.
الفكرة المعتدلة تنتصر ، والفكرة المتطرفة تشع بقوة ثم تنطفئ هكذا يعلمنا التاريخ.