مع كل صيف وخريف تعود الشركة الوطنية للكهرباء صوملك إلى الواجهة من جديد ليس لتدخلها في الحالات الحرجة وتطوير خدماتها لمواجهة موجة الحرارة اللافحة ولكن لرداءة خدمتها وانقطاعها الدائم.
ولا خلاف في الوقت الحالي على
الفساد والتقصير وسوء التسيير في خدمات الشركة، فهو حديث الجميع، ولكن محاولة اقتصاره على التذمر من الانقطاع في خدمة التيار الكهربائي الموسمية وتركيز الإعلام عليها وعلى سوء معاملات أفراد الشركة في مقراتها وضياع الحقوق وغلاء الفواتير وتسيب صغار الموظفين وانتشار الأسلاك الكهرباء المكشوفة في البرك المائية هو أفضل خدمة للشركة التي باتت اليوم جمهورية وحدها.
ولكنها جمهورية من جمهوريات الدول الفاشلة على غرار الدولة التي تستتضيفها، فهي جمهورية تحكم بتحالف عميق ووطيد بين رجال الأعمال والمتنفذين من رجال الجيش، والمحيط الأكثر حصانة في ظل النظام القائم.
ولنأخذ نقطتين أساسيتين تكشفان عمق الفساد الذي ينخز هذه المؤسسة التي تعد واحدة من أكبر المؤسسات الموريتانية.
الحصانة من التفتيش
منذ إنشاء المفتشية العامة للدولة أيام المرحلة الانتقالية لم تنشر تقريرا واحدا عن هذه الشركة، وإن كانت بعثاتها قد زارت الشركة وكشفت جزءا ضئيلا ربما من الفساد الذي ينخرها، ومن يزور موقع المفتشية العامة للدولة لن يجد فيها ذكرا للشركة.
ولكن من يبحث في الأرشيف الصحافي سيجد تقريرا مسربا نشر في ديمسبر 2009 على وكالة الأخبار الموريتانية يزخر بالمعطيات التي تثبت أن هناك من يحصن هذه الشركة من المساءلة والمحاسبة.
في التقرير المذكور إشارة إلى " تضاعف كبير في مديونية الشركة لتصل إلى أكثر 8.3 مليار أوقية لصالح البنوك الوسيطة، إضافة إلى رصد تضاعف نسبة ضياع الطاقة.
حجم المتأخرات الضريبية على الشركة لتصل في 30 سبتمبر 2007 إلى 1.8 مليار أوقية، هذا في وقت بلغت فيه التسبيقات والعلاوات غير المبررة لصالح أطر الشركة مبلغ 279 مليون أوقية.
ووفق تقرير المفتشية الوحيد المسرب فإن "صافي المبالغ المفقودة ناهز 261 مليون أوقية توزعت ما بين فوائد غير مبررة وفوائد تمت فوترتها خطأ وأتعاب مستشارين وهميين ومصاريف رفع غير مبرر لمرضى إلى الخارج واشتراكات دعم"
وفي الوقت الذي يموت في الأطفال في المسشفيات العمومية وتؤجل العمليات الجراجية المستعجلة بسبب انعدام الكهرباء فإن " مجموعة من المولدات الكهربائية تناهز قيمتها 36 مليون أوقية قد وضعتها الشركة في منازل مسؤولين سامين عام 2006. وركبت المولدات في منزل كل من الوزير الأول السابق سيدي محمد ولد بوبكر والمدير العام للأمن الوطني (القائد الحالي لأركان الجيش محمد ولد الغزواني) وقائد الأركان الخاصة لرئيس الجمهورية (الرئيس الموريتاني الحالي محمد ولد عبد العزيز) فضلا عن مدير ديوان رئيس المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية محمد الأمين ولد الداهي، وذلك دون سند قانوني"
كان ذلك التقرير المسرب هو آخر تقرير يرصد الفساد في الشركة ولك أن تتخيل ما عليه الحال الآن.
وهنا لا يمكن الحديث عن محاربة الفساد لأن أيا من مديري الشركة لم يعتقل أو يعلن اسمه من ضمن المغضوب عليهم المطالبين بإرجاع الأموال العمومية.
بيع الوهم .. وتصدير الكهرباء
تتحدث وثيقة صادرة عن حملة الرئيس الأخيرة وعرضت في فيلم وثائقي يرصد إنجازاته أن عدد المدن الموريتانية التي وصلتها الكهرباء كان تسع عشرة مدينة قبل 2009، وأنه في أفق 2015 سيكون 46 مدينة، وحسب الموقع الرسمي للشركة على الأنترنت فإن إجمالي شبكتها الممتدة على طول التراب الوطني هو 1780 كيلومتر موزعة على سبع وعشرين محطة.
ما يعني تغطية الشبكة لا تصل إلا قرابة 30 في المائة من المدن الموريتانية، وتبقى سبعون في المائة الأراضي الموريتانية المأهولة لا تصلها الكهرباء.
زد على ذلك أن مهندسين يعملون أو عملوا في الشركة يتحدثون عن خلل بالغ في توزيع التيار الكهربائي، والأرقام التي تتحدث عنها الشركة في أفق 2015 لن تكون دقيقة، نظرا لانعدام الصيانة، حيث تتحدث عن وجود فائض سيزيد على 100 ميغاوات تم توقيع اتفاق لتصديره إلى السنغال.
والواقع أن الطاقة لم تصل يوما إلى في وقت واحد إلى 60 ميغاوات حقيقة.
وهنا لنعد إلى التقرير المسرب، حيث يفيد أن الشركة "تعاني من ضياع 59.880.152 كيلووات (وفقا للمعطيات التجارية) وهو ما يناهز 21.5% من إنتاجها ويفاقم العجز الذي كثيرا ما يظهر على شكل انقطاعات للتيار. أما الإدارة الفنية للشركة فتتحدث عن طاقة ضائعة تناهز 92.699.691 كيلووات وهو فرق يناهز الثلث.
وطبقا للتحليل الذي قامت به الجهات الحكومية فإن الخلل في حساب الكميات المنتجة يعود إلى وجود عدة محطات توزيع لا تتوفر على عدادات (15 من أصل 306)، ووجود عدادات غير متطابقة مع الأنظمة وتتصدر نواكشوط المناطق التي يضيع فيها الإنتاج، طبقا للمعطيات التجارية ثم الفنية، متبوعة بنواذيبو ثم المناطق الداخلية".
والآن كيف يعقل أن تعلن شركة بل تجدد الإصرار على عزمها تصدير فائض الكهرباء وهي عاجزة حتى عن تغطية حاجات بلدها الأساس، وغير قادرة على صيانة ما يتوفر لها من طاقة.
إن القول إن الأزمة التي يعيشها قطاع الكهرباء في موريتانيا أزمة موسمية هو محاولة للتضليل وذر للرماد في العيون حتى لا يفتح نقاش حول تسيير واحدة من أضخم المؤسسات العمومية في البلد والتي تحصل من جيوب المواطنين على مليارات من الأوقية ولا تقدم لهم خدمات ذات قيمة.
وإذا كان النظام الحالي لا يريد تسيس الاجتحاجات القائمة ضد ممارسات وفساد الشركة عليه التوقف عن ربط إنجازتها به، والتوقف عن الحديث الدائم عن ما قبل 2009 وما بعده، وليقم نواب البرلمان المنتخبون من الحزب الحاكم بمساءلة وزير الطاقة وإدارة الشركة عن مجريات العمل فيها.
ولتنشر المفتشية العامة للدولة تقارير دورية عن زياراتها للشركة، وليحاسب النظام من يثبت أنه مسؤول عن الفساد، لأن الفساد قائم ولا يحتاج دليلا.
وإن بقيت الشركة تحظى بالحصانة، واستمرت سياسة المن بمصابيح الكهرباء الباهتة على عدد قليل ممن وصلهم خط الخدمة، فإن أي مطالبة حينها بمحاكمة الضالعين في تدمير حياة الناس لن تكون فعلا تمكن إدانته، لأن كل مواطن بات اليوم يعرف أن الكهرباء حق له وليست خدمة من الدولة.
بقلم أحمد ولد إسلم - Ahmed3112@hotmail.com