و إنما يعجل بخياركم…
و يأتني الخبر الحزين، و أنا خارج الوطن، فيعتصر القلب حُزنا و حَزنا. حُزنا على فقدان أخ و صديق قل مثيله، و حَزنا أني لم أشيع “أخي” إلى مثواه الأخير
و إنني لأعزي نفسي وأعزي بصفة خاصة أسرة أهل همدي وبصفة عامة أعزي الشعب الموريتاني في رحيل قامة حضارية وطنية، منّ الله تبارك وتعالى على هذا الشعب بأن كانت بين ظهرانيه نبراس معرفة، ومشعل نضال، وأيقونة أخلاق
إن الإجماع الوطني على”مركزية” هذه الشخصية في السجل الوطني المشرق، وما أغدقه الموريتانيون من جميع القوى السياسية والاجتماعية والمدنية والثقافية من نبل مشاعر تجاه الراحل وأسرة أهل همدي الكرام، لهي لفتة كريمة تخفف المصاب الجلل، الذي تمثل في رحيل قامة فارعة، تركت بصماتها على أوجه عديدة من منظومتنا الثقافية والقيمية
حين أعود إلى نواكشوط من سفير طويل، ولا أجد “أخي” محمد سعيد ولد همدي، الذي اختاره الله تبارك وتعالى إلى جواره ورحمته.. تشرع الذاكرة نافذة بحجم أفق لتبث النفس آهات، هي في حقيقتها لحظة تأمل للرحلة الخاطفة للإنسان في هذه الحياة الدنيا.. ولكن ما أروع الزاد إن كان شهادة جماعية للراحل بحسن الخلق، والدين، والبساطة، والتواضع، والنضال، والانفتاح، والتسامح، والوعي، والثقافة، وحب الناس، والأبوة الوطنية الحنونة.. خصال اجتمعت في الراحل، وجعلت منه محطة لكل المواطنين من نخبة وعامة يتزودون منها معرفة وعطاء ونصائح.. من رجل عرف بالشغف إلى المعرفة، وبالنضال الواعي ضد الظلم والتهميش
إن الخدمة العامة التي قدمها الراحل للبلاد والخدمة الشعبية التي قدمها للمواطنين كموجه ومعلم ومثقف وباحث ومربي.. تستحق أن تخصّ بنشرية لائقة توثق الدور الذي لعبه الراحل العزيز في حياته المليئة بالعطاء الإنساني الأصيل.. فمحمد سعيد ولد همدي كان “قامة بيضانية”، في أسمى معانيها
وريثما تتوفر الفرصة لإنصاف الراحل العزيز في تظاهرة تليق بحجمه ومكانته… أطالب الساحة الوطنية بإنصاف الذاكرة، وإنفاذ الواجب اتجاه “أخي”.
لقد فقدت “أخي”. وسأروي هنا قصة أول لقاء لي ب”أخي”
ففي شهر مايو من عام 1979، كنت إلى جانب السرير الذي يرقد عليه والدي الزعيم أحمد ولد حرمة ولد ببانا قدس سره ، وذلك في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس، حين دخل علينا لعيادة الوالد رجل وقور محمد ولد غناه الله أطال الله بقاءه رفقة شاب وسيم أريحي: محمد سعيد ولد همدي .عند انتهاء وقت الزيارة بقي الوالد ماسكا بيد ولد همدي حتى إذا غادر ولد أغناه الله الغرفة قال والدي: إن همدي والد هذا الرجل كان أحد سياسيي المعسكر المناوئ لي، لكنه تميز عن ذلك المعسكر بأنه كان قامة أخلاقية نبيلة، و لم ينلني منه قط مكروه، و أنا على يقين أنه كان يصوت لصالحي سرا تقية. هل تعلم أني أنا من سميتك محمد سعيد تبركا و تيمنا بزيارة الشيخ محمد سعيد ولد الطلبه الذي صادفت ولادتك زيارته لمدينة آطار . أخذ والدي بيدي ويدي محمد سعيد ولد همدي وجمعهما بين يديه، قائلا: اليوم اربط بينك وبين محمد سعيد بالأخوة، فأنتما أخوين من هذه اللحظة
ومنذ تلك اللحظة لم يخاطب كلانا الآخر إلا بعبارة “أخي
فبحق هذه الأخوة الصادقة، أرفع أكف الضراعة و الابتهال إلى الكبير المتعالي ، أن يغدق عليه شآبيب الرحمة و الرضوان في سعة الدور والقصور في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقاً. اللهم نور مرقده وعطر مشهده وطيب مفجعه. اللهم كن له بعد الحبيب حبيبا ولدعاء من دعا له من المؤمنين سميعا ومجيبا وأكتب له في مواهب رحمتك حظا ونصيبا. اللهم أغفر له وأرفع درجته في المهديين ، اللهم أفسح له في قبره ونور له فيه، و أوجب له بمحض فضلك و كرمك غفرانك وجزيل إحسانك ومواهب صفحك ورضوانك ، يا أكرم من سئل وأوسع من جاد بالعطايا. وبارك اللهم في الخلف… وإنا لله و إنا إليه راجعون
الدكتور والوزير السابق الشيخ المختار ولد حرمة ولد بابانا