تعد مشكلة المياه من أصعب المشاكل الجوهرية و المصيرية التي يمكن أن تواجه أي شعب، ناهيك أن جميع الدراسات الإستراتجية و مراكز البحوث العلمية المتخصصة في مجال المياه قد أكدت إن معضلة المياه هي الخطر القادم و أن جميع الحروب و النزاعات في القرن الواحد و العشرين بين المجموعات العرقية أو القبائلية في الدولة الواحدة أو بين الدول المتجاورة هي ستكون علي قطرة المياه. إذا و ضعنا في الحسبان إن معظم منابع الأنهار و البحيرات عادة ما تنبع خارج تلك الحدود التي صنعها الاستعمار عن قصد أو عن غير قصد، لتكون بؤرة لتوتر ونزاعات محتملة في المستقبل بين تلك الدول – أي الدول المنبع و الدول المصب- و نذكر علي سبيل المثال لا الحصر نهر النيل الذي ينطلق من أثيوبيا ، و نهرا دجلة و الفرات اللذان ينبعان من الأراضي التركية، و هنا في موريتانيا نجد نهر السنغال الذي ينبع من فولتا العليا. لكن لحد الساعة مازال المواطنون علي الضفة اليمني لنهر السنغال يعتمدون علي وسائل بدائية جدا في عملية جلب و تعقيم مياه هذا النهر و حتي مدينة روصو ذات الكثافة السكانية الكبيرة فان التعقيم ليس إلا إضافة ماء جافيل إلي الخزان الكبير الذي يزود ساكنة المدينة بالماء الشروب، و هي عملية ليست ذات قيمة وقائية حسب التحاليل المخبرية. بل أن هنالك ألاف القرى التي تطل علي النهر يعتمدون بشكل كامل علي مياه هذا النهر، فهو من جهة مكب لنفايات و الأوساخ و من جهة أخري هو المصدر الوحيد لتزويدهم بالماء الشروب، و الأنهر أو البحيرات من المعروف أنهما محصلة التنظيف لسطح الأرض بعد كل فصل خريف و بالتالي معالجة هذه المياه و تعقيمها مسالة لا يمكن الاستغناء عنها بل ضرورية وملحة. أما في الداخل الموريتاني أو موريتانيا الأعماق فحدث و لا حرج فالمعانات متفاقمة و تنبؤ بكارثة وشيكة. و نذكر هنا انه إثناء دراسة شاركت فيها سنة 2005-2006 حول المشكلة المائية في الحوض الشرقي بصفة عامة و مقاطعة امورج بصورة خاصة، و هي ممولة من طرف البنك الدولي، لا حظنا انه يوجد في هذه المقاطعة حوالي 225 تجمع قروي في ثلاثة بلديات هي بلدية امورج، بلدية عدل بكرو، و بلدية بوكادوم، و أن هنالك مثلث فقر جديد يسمي كوش يشبه إلي حد كبير مثلث الفقر المعروف لدينا من حيث المعانات و انعدام الظروف الإنسانية فيه و الإهمال المتعمد من قبل الأنظمة المتعاقبة وان كل ساكني هذا المثلث الجديد هم من شريحة لحراطين، و إثناء الدراسة لاحظنا أن هناك 11 بئر ارتوازي وان ثلاثة فقط صالحة لاستقلال أو الاستعمال. أما من الناحية الهيدروجيولوجية فانه يمكن تقسيم الأراضي الموريتانية إلي أربعة مقاطع جيولوجية متباينة : 1- الحوض الرسوبي الجنوبي الغربي : و هو الذي يشمل كل ولاية الترارزة و الأجزاء الغربية من ولايات داخلة انوذيبوا و انشيري و لبراكنة و الاجزاء الجنوبية من ولاية كوركل و يمتاز هذا الحوض الرسوبي بوفرة المياه إلا انه يعاني في بعض مناطقه من وجود مياه مالحة إلي درجة يصعب استعمالها و خاصة الشريط الممتد علي طول الساحل، بالإضافة إلي وجود جيوب من المياه المالحة يرتفع فيها تركيز الملح، حيث تتبعثر هنا و هناك. و قد أكدت بعض الدراسات الهيدروجيولوجية و الجيولوجية أن مياه هذا الحوض الرسوبي هي مياه مستحاثية، أي لا يمكن تعويضها!! أي هي عبارة عن خزان ضخم له مخارج و لكن ليس له مداخل مما ينذر بتناقصه المستمر و بالتدريج حتي زواله نهائيا، هذا كله مع تقدم جبهة المياه المالحة التي تتقدم سنويا باتجاه المياه العذبة، هذا أذا فهمنا أن منطقة بتلميت تنخفض بمقدار ثلاثون مترا عن مستوي سطح البحر الذي هو المرجع الاساسي لقياس الارتفاعات. 2- سلسلة الموريتانيد : و تشمل هذه السلسلة كل ولاية كيديماغا تقريبا و الأجزاء الشرقية لكل من ولايات لبركنة و كوركل و انشيري و داخلت انوذيبوا و بعض الأجزاء الغربية من ولاية العصابة " مقاطعة باركول" و تصنف هذه المناطق بأنها فقيرة جدا بالمياه أو بأنها أفقر مناطق موريتانيا بالمياه، وينعدم فيها و جود المياه الصالحة للشرب تماما، إلا في حالات نادرة جدا، و فيها يقع مثلث الفقر و يضم هذا المثلث مئات القرى الريفية "خاصة ادوابة و هو تجمع خاص بلحراطين" التي تنعدم فيها أساسات الحياة الإنسانية سواء تعلق الأمر بالمياه أو الصحة أو التعليم. و في مطلع التسعينات من القرن الماضي قام التعاون الياباني الخارجي و بالتنسيق مع وزارة المياه و الطاقة الموريتانية انأ ذاك، وذلك بعد ظهور دودة غينيا التي انتشرت كوباء في هذه المنطقة بحفر عشرات الآبار الارتوازية ذات النوعية الرديئة أو السيئة لا تلب أن تتعطل و يتعذر إصلاحها و هي ألان كلها خارج الخدمة، و هي تعتمد علي القوة البدنية لإنسان لإخراج المياه. 3- حوض تاودني : و هو حوض رسوبي و يشمل تقريبا ثلث الأراضي الموريتانية إلا انه أيضا فقير بالمياه باستثناء بعض المناطق الخاصة و القليلة جدا مثل منطقة لعيون و ضواحيها و هو يشمل كل من ولايات الحوض الغربي و تكانت و ادرار و لعصابة بكاملها باستثناء مقاطعة باركول، ويشمل ايضا أجزاء واسعة جدا من الحوض الشرقي تمتد تقريبا حتي الحدود مع دولة مالي من الناحية الجنوبية، و في هذه المناطق تنعدم تماما المياه الصالحة للشرب. و المفارقة ألكبري و المحزنة بل الحقيقة المرة إن هذه المنطقة هي التي يعتمد عليها أي نظام سواء كان عسكريا انقلابيا أو ديمقراطيا انتخابيا للوصول إلي سدة الحكم و أن معظم الذين يديرون شؤون البلاد أو النظام هم ينحدرون من هذه المنطقة، إلا أن هذا كله لم ينعكس علي ظروف ساكني هذا الحوض أو المنطقة المزرية و المتفاقمة مما يعني أنهم يتعمدون معاناتهم. و يمكن أن يكون هذا الحوض الرسوبي يحتوي علي مكامن نفطية وغازية و هو ألان موضع للدراسات الجيوفيزيائية من طرف شركة توتال الفرنسية و شركائها. 4- الحوض الرسوبي الحديث الشرقي أو الظهر النعمة : و هو يمتد مسافات محدودة في الأراضي الموريتانية وفي الأجزاء الشرقية فقط من مقاطعتي باسيكنو و ولاة، و يتميز بقلة الكثافة السكانية، و تمتاز مياه هذا الحوض بعذوبتها و غزارتها، إلا أن سحب المياه من قعر البئر يتطلب مجهودا كبيرا نظرا لطول الآبار في هذا الحوض الرسوبي حيث يصل طول البئر التقليدي مابين 80-100م هذا مع ارتفاع تكلفة حفر البئر الارتوازي التي تصل إلي 20 مليون أوقية أي حوالي 65000 دولار أمريكي. خريطة توضح المصادر المائية في موريتانيا و لأسف الشديد لازالت كل الأجهزة العلمية المتخصصة في البحث أو التنقيب أو الاكتشافات المائية هي أجهزة غير دقيقة و مكلفة جدا، و أحيانا كثيرة تكون حدسية أي لا تخضع للقوانين الجيوفيزيائية التي يمكن من خلالها تقليص نسبة الخطأ و بالتالي تقليص نسبة هدر المال العام أو الخاص علي حد السواء، و بالرغم من تطور التقنيات الحديثة و سرعة تدفق المعلومات و سهولة الحصول عليها إلا إننا كمختصين و فنيين في مجال البحث و التنقيب عن المياه نجد سدا منيعا أو جهلا مكتملا في اكتشاف أو ابتكار أجهزة جيوفيزيائية حديثة و دقيقة تعادل في دقتها أجهزة اكتشاف الأورام السرطانية أو الإعطاب الميكانكية و الكهربائية في الطائرات أو السفن. إننا و من مطلق وعينا و فهمنا العميق لمعضلة المياه وملامستنا و احتكاكنا المستمر و الدائم مع المواطنين الذين يفتقدون إلي الحدود الدنيا من المياه للبقاء علي قيد الحياة، فإننا نشعر بحزن و بغلق شديدين لغياب رؤية أو إستراتيجية شاملة أو مقاربة وطنية مدروسة في الأفق القريب و المتوسط و حتى البعيد لوضع حد نهائي لهذه المعانات المستمرة أو النقص منها علي الأقل في الآجال المتوسطة القادمة.إذ أن ما نشاهده اليوم علي الواقع ليست ألا مشاريع وهمية لتمتص غضب الجماهير الجائعة و العطشانة. المهندس: محمد ولد جار الله