لستُ ممن يتخوف من هذه الحركات الشرائحية التي تطالب بحقوقها وبالمساواة والعدل داخل المجتمع وفي إطار الدولة لأسباب تتعلق بطبيعة حركة المجتمع وتطوره ، فمن غير المعقول أن تظل تلك الرواسب قائمة وذلك التقسيم الاجتماعي القديم كائنا ، والحركة والتطور في المجتمع مسألة
إيجابية وما يجب أن يتخوف منه الجميع هو ركود المجتمع وجموده وعدم قابليته للتغير، هذا إن سلمت هذه الحركات من الدعم والتوجيه الخارجي ، ومن السعيِّ في تحقيق المآرب السياسية الساذجة ، وبقت تنشد الشفافية والعدل بأسلوب ينم عن مستوى كبير من الوعي وعمق وسلامة البصيرة ، ومن الطبيعي أن تواجه حركات كهذه عند ظهورها أول مرة انتقادا ومعارضة كبيرة في بناء اجتماعي مركب من دوائر محدِّدَة للأدوار والوظائف مسبقا ، والفرد يعيش ضمن الدور الذي يحدده له المجتمع ولا دخل له فيه وعليه أن يتقبل ذلك تلقائيا ، إننا نتحدث عن نظام اجتماعي تراتبي ظهر مع دخول قبائل بني حسان المنطقة وبعد سيطرتهم على المجتمع سياسيا وعسكريا لتقود في مقابل الزوايا الذين ذهبوا لتعويض الهزيمة بتغذية الجانب الفكري والروحي وتتحدد في إطار هذه العلاقة أدوار الشرائح التابعة لتلك الشريحتين المسيطرتين ، وهم من يقود شعلة النضال والمطالبة بالحقوق والمساواة ، ومع أن تلك الشرائح المهشمة عديدة في المجتمع إلا أن الأمر تكاد تغطيه شريحة "الحراطين" التي هي أوسع الشرائح وأعرضها ، مما يدفع للتساؤل حول وضعها تاريخيا منذ دخول بني حسان إلى الآن ؟ ويدفع للتساؤل أيضا عن المشاكل التي تعاني منها على المستوى الاجتماعي والثقافي ...؟
في فلسفلة التغير الاجتماعي يُقدم الأب الروحي للتيار الشيوعي "كارل ماركس" تحليلا لأوضاع الطبقة من خلال مراحل عديدة تمر عليها ، فيُميز بين الشريحة أو "الطبقة في ذاتها والطبقة لذاتها" الأولى تعمل دون أن تعي وضعها أو تعيه وتجاهلته ، والثانية تعمل لذاتها بوصفها هي هي مبرزة ذاتها من أجل الحصول على حقوقها .
وهذه نظرية بعيدة العمق وذات مصداقية كبيرة استطاعت أن تفسر الكثير من الصراعات التي تُحدِثَ التغير على المستوى الاجتماعي ، نلاحظ من خلال ذلك وفي ضوء هذا الفهم والتحليل منذ أن انتشرت العبودية في المنطقة أن "الحراطاني" لم يعد ذلك الشخص الذي يشعر بانزعاج من أصله ويحاول التهرب منه قدر الإمكان في الوقت الذي تجره أعباء الوضع والدائرة المسجون فيها اجتماعيا ، بل أصبح يقفُ مفتخرا ومعترفا بأصله وبوضعه متبرئً من رواسب ذلك محملا إياه المجتمع ويناضل من أجل المساواة والمشاركة ، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن المجتمع الموريتاني يعيش وضعا ايجابي حاسم سيتمخض عن فجر جديد تسود فيه المساواة والعدالة ، إن لم يستمر القائمون أو المتكلمون باسم الشريحة ومن يحمل همها في التلاعب بالمصطلحات والألفاظ ومراد الحصول على الرتب السياسية بدل الاجتماعية ، وبناء على ذلك يمكن رصد مجموعة من الأخطاء التي تعاني منها حركة النضال إن صح التعبير لهذه الشريحة :
1) عدم وضوح الرؤية وضبابية الهدف : تجلى في بداية المشوار مع نضال مسعود ولد بلخير ضد العبودية عندما تهرب من الهوية العربية وقال أن شريحة "الحراطين" أفارقة بامتياز وحاول بناء على ذلك فصل هذه الشريحة عن العرب البيض ومع أن تاريخ هذه الشريحة مخالف لاعتباره ذاك ومع أنه تراجع عن ذلك الاعتبار وعن القومية الإفريقية الزنجية وقال بعروبة "لحراطين" إلا أن نفس الأخطاء التي وقع هو فيها وتراجع عنها نتيجة لاكتشافه للهوة الشاسعة بين ما يدعو له وخصوصية وأهواء من يتكلم عنهم ، وقع فيها من يعتبر نفسه حاملا لشعلة النضال بدلا من مسعود معترفا بإرثه النضالي وغير مبال بما قدم ، من كافة الذين يتكلمون باسمهم ويحاولوا إثبات أن "الحراطين" كيان اجتماعي مستقل عن "البيضان" وهذا خطأ وكذب ، فالهوية والانتماء لا تتحدد بالمعايير والخصائص الفسيولوجية والجسمية فحسب وإنما بالثقافة والقيم والعادات والأعراف الاجتماعية وكل ذلك نجده موحدا في الطرفين أو الطرف المقسم (ـ الحراطين ـ اليبضان) ينضاف إلى ذلك عدم موضوعية الطرح فالكلام عن العبودية ووجودها اليوم في المجتمع الموريتاني هو ضرب من الخيال وكلام أجوف تكذبه الوقائع والأحداث ، والموجود لا يتجاوز كون هذه الشريحة هي التي تمثل القاعدة العريضة الجاهلة والمكونة لليد العاملة ، ولا يقع ذلك على مسؤولية أية جهة ، فالتعليم مفتوح لمن أراد من كافة الشرائح والفئات ،والامتناع عن التعليم والقعود عنه ليس راجعا لأية غير أسرة الفرد والفرد ذاته .
2) النقطة الثانية : تتجسد في عدم وجود منبر وكيان موحد من هذه الشريحة أو من غيرها فكثير إن لم نقل كل الذين يتكلمون ويناضلون من أجل التحرر والانعتاق متفرقين على كلمة واحدة وهدف واحد ، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن النضال وحصول المهمشيين على حقوقهم ليس هو الهدف الأساسي بل هناك أطماع ومآرب سياسية تحرك مناضلي هذه الشريحة ، كما أن بعض التفرقة والتشرذم داخل صفوف مناضلي "الحراطين" كان مخطط له من قبل أجهزة الأمن الوطني من أجل تفريق الكلمة وإفشال المشروع ، وبحسبي أن ذلك لا يعود إلى نوايا سيئة بل هو نابع من التخوف من الخطابات العنصرية التي روجتها هذه القضية ، ففهم المتلقي قد لا يتناسب مع إرادة القائل أو المحرك أحيانا ومحاولة الحد أو قطع يد الأطماع الخارجية
ولتصحيح مشوار النضال بصفة عامة ونضال "الحراطين" بصفة خاصة يجب تبني خطاب واحد منطقي وعقلاني ، يقول أولا بعروبة ووحدة الشعب الموريتاني صفة عامة والعنصر العربي منه بصفة خاصة (أبيضا أو أسودا ) والسعي في هذا الميدان وعلى هذا المنوال يمكن أن يحقق الكثير من التفاهم ويحدث الكثير من المشاركة ، ولا بد أن يكون ذلك في إطار موحد للشريحة بأكملها ، وهذا لا يوجد اليوم مع كثرة المتكلمين باسم الشريحة ، فمنذ أن أفل نجم مسعود وخار عظمه واعتذر بعدما اكتشف الصواب والحق ـ كما قال ـ بادر كثير من هذه الشريحة لحمل اللواء من بعده والهدف ليس النضال بقدر ما هو هدف سياسي يتوخى منه صاحبة الشهرة والصيت والمآرب والمناصب السياسية وهذا هو المشكل الذي وقعت هذه الشريحة ضحيته .