.مقاربة قانونية لجريمة التعذيب في القانون الموريتاني.
الدكتور القاضي:هارون ولد عمار ولد إديقبي
رئيس الغرفة المدنية بولاية انوكشوط الغربية
دون تَعَمُّقٍ؛
...ليس من الهيِّن أن يستغرق الإنسان في التفكير دون ذهول، ويسترسل في التنظير دون خجل في مسألة بادية للعيان كمسألة التعذيب، و يستند إلى افتراضات فلسفية و نظريات علمية دون جدوى.. وهو يشاهد التردي و الانحطاط في منظومة القيم والحقوق، رغم تطور مكانة الإنسان في القانون الدولي حيث أصبح الإنسان في كل ما تعنيه الكلمة من مدلولات الكرامة احد أهم ركائز هذا الفرع من فروع القانون، لمََّّا كانت الكرامة الإنسانية هي أهم ما تبلور عنه الصراع الحقوقي المرير الذي جعل الأمم تتنادى إلى تكريس الاعتراف بها في ميثاق الأمم المتحدة لسنة 1945، وتدبَّجها في إعلان 10 ديسمبر 1948 المؤسس لكافة الحقوق البشرية التي تحول دون التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة و اللانسانية، و رغم ذلك فمازال التعذيب ممارسة عالمية مُورستْ في 140 دولة حسب التقرير الصادر 2001 عن منظمة العفو الدولية من بينها 79 دولة من البلدان الـ155 الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضته.
وقَبْلُ فقد فاقت الشريعة الإسلامية في التكريس والمعالجة بتعميق مبدأ الكرامة وتاقتْ، وتشوَّفت للحرية كأساس للكل الحقوق الإنسانية، و وقفت من التعذيب موقفا رائقا، دقيقا متجاوزة تحريم التعذيب و المعاملة القاسية و المهينة (سوء المعاملة) إلى تأثيم وتجريم الأذِيَّة قال تعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا" [الأحزاب58] يقول الإمام القرطبي في تفسيره: "أذيَّة المؤمنين والمؤمنات ...بالأفعال والأقوال القبيحة"؛ بل عدَّته من الكبائر، لكون الشارع رتَّب عليه الوعيد والعذاب يوم القيامة؛ لقول نبي الرحمة المهداة في حديث مسلم المرفوع:" إنَّ الله يعذِّب الَّذين يُعذِّبونَ النَّاس في الدُّنيا"، ويجليه أكثر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" مَنْ ضَرَبَ سَوْطًا ظُلْمًا اقْتُصَّ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "؛ وللزجر الذي أورده البخاري في "الأدب المفرد"، بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مسعود عن النبي، صلى الله عليه وعليه وسلم، قال: "أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين"، وبالطبع فإن: "هَذَا مَحْمُول عَلَى التَّعْذِيب بِغَيْرِ حَقٍّ أو بغير سبب مبيح شرعا وفقها ، كتنفيذ َالْقِصَاصِ ، وَالْحُدُود ، وَ التَّعْزِير ، وَنَحْو ذَلِكَ" كما قال العلامة النواويّ في "شرح مسلم"، وقد وعت الشريعة ذلك فنصت حصرا على العقوبات البدنية الحدِّيَّة في النظام العقابي الإسلامي، و تمَّ التحكم إلى أبعد الحدود في التَّعزير بربطه بالحاجة والمصلحة التي تجمع بين نفعية و وقائية العقوبة ، وليس في التعذيب والضرب والقسوة مصلحة شرعية بادية أوضح و أوْلى من التشبث بالكرامة الإنسانية.
بيد أن هذا المخزون النظري والأدبي الهائل في الموروث الإسلامي لم يمنع من وجود تجاوزات كبيرة في تراث الأمة التاريخي الذي تفوح منه نشازًا رائحة التعذيب كانتهاك إنساني صارخ و وسيلة للتنكيل وانتزاع الاعتراف والاقتصاص من خصوم الحكم.
و لا غرو أن تكون الحال في النظم الوضعية الحديثة الأخرى أسوأ من الحال الآنفة إذ ارتبط التعذيب في الأولى بالممارسة التي تمجُّها الأدبيات الإسلامية، عكس الثانية التي تناغمت فيها الممارسة مع شَرْعَنَة التعذيب أحيانا قبل انحسارهما نتيجة الأفكار الفلسفية التي بزغت في عصر النهضة مفجرة الثورة الحقوقية في القرن [19م] مع أول إدانة رسمية للتعذيب صدرت عن البابا "نيكولا الأول" في رسالة بعثها إلى ملك بلغاريا سنة 1866 ، وجاء فيها أنه": لا القانون الإلهي ولا القانون الإنساني يسمحان بأن يقر المتهم بجريمة لم يرتكبها، فالاعتراف يجب أن يكون طوعيا ولا ينتزع بالقوة، أوقفوا التعذيب وأدينوه". و التي كان لها صدى كبير، أدى إلى إلغاء نظام الاستجواب في بعض المقاطعات الفرنسية، ومنها مقاطعة "تولوز " التي شهدت في عام 1762 مأساة إنسانية، حين حكم بالإعدام على شخص استجوب تحت التعذيب حتى الموت فيما عُرف بـ: "l’affaire de colas" وربما كانت هذه القضية سببا و دافعا رئيسيا للفيلسوف "فولتر" في كتاباته الثورية الرائدة، لتعود ظاهرة التعذيب من جديد و بقوة في القرن[20م] و بأشكال وألوان مختلفة مهُولَة مع الدكتاتوريات الشمولية خصوصا "موسوليني" [1922] الذي أعلن ما عرف " بالإنسان اللاشيء"، و "هتلير" الذي قمع معارضيه من اليهود والغجر، بعقار "Mescaline" المستخلص من الأعشاب الذي يحدث لدى متلقيه نوعا من الهلوسة تجعل المعذَّب يبوح بأسراره الخاصة جدا، ليصير التعذيب في هذا القرْن [21م] ممارسة مشروعة في ظل الإرهاب والحروب العابرة والاحتلال، يتغاضى عنها الجميع في زمن الحرب والسِّلم الاستعمار و الانعتاق، الاحتلال والتحرر.
و أمام هذا الواقع المتردِّي أصبح من اللازم الإنصات لصوت الضمير الإنساني المنادي بضرورة تخطِّي هذا الواقع المُزري الذي تعيشه البشرية، ويمكن رصد التنادي في ثلاث مستويات تم من خلالها النضال من اجل حظر التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية والمهينة تدريجيا.
أولا: مستوى القانون الدولي الإنساني؛ أي قانون النزاعات المسلحة أو قانون الحرب حيث نصت " مدونة ليبر Lieber"[1863] كأول محاولة لتقنين قانون النزاعات المسلحة على أن:" الضرورة العسكرية لا تسمح بالوحشية أو توقيع الألم والمعاناة، ولا إحداث الجروح والبتر، ولا تعذيب للحصول على المعلومات "[المادة:16]، و تلاها إعلان بروكسل لسنة 1874 ، الذي تمخض عن المؤتمر الدولي المنعقد في بروكسل 27 أغشت 1874 ، و كانت الغاية منه تدوين قانون الحرب، و التنصيص على معاملة أسرى الحرب معاملة إنسانية [المادة23]، ليتم تحريم التعذيب لأول مرة في دائرة القانون الدولي الوضعي في عام 1907 حين تضمنت حظره صراحة لوائح لاهاي الخاصة بأعراف وقوانين الحرب البرية ، لتتم الإدانة الرسمية لجريمة التعذيب والمعاملات اللانسانية في اتفاقيات جنيف الأربع لسنة: 1949 والبروتوكولين الإضافيين لسنة: 1977 الملحقين بها
ثانيا: مستوى القانون الدولي لحقوق الإنسان،أو الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، فقد كرست أغلب المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، ذات الطابع العام مبدأ حظر التعذيب واعتبرته من الممارسات الغير الإنسانية وتناولت مقتضياتها التفصيل في ذلك ، و اتخذت صيغا مختلفة بدءًا من الإعلانات العالمية الداعية لحماية حق الإنسان في عدم التعرض للتعذيب، مرورا بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية الملزمة و التي تكرس حقوق الإنسان ابتداء كالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي اعتمدت من قبل مجلس أوروبا في 4 نوفمبر 1950 ودخلت حيز النفاذ في 03 سبتمبر 1953 [المادة:2] ، والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، التي اعتمدت سنة 1969 من قبل منظمة الدول الأمريكية، [المادة:5]، و الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الذي اعتمدته منظمة الدول الإفريقية في سنة 1981 ، ودخل حيز النفاذ في 26: أكتوبر1986 ، و الميثاق العربي لحقوق الإنسان لسنة: 2004 [المادة:8]، و ميثاق حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي لسنة: 1994[المادة:3]، و إعلان حقوق الإنسان في الإسلام [المادة:7]، و لم تقنع هذه المواثيق الدولية ذات الطابع المنتظم الدولي ليُفْرد لمسألة التعذيب مقتضيات خاصة من أهمها وأبرزها اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب والمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللانسانية أو المهينة (UNCAT) باعتبارها من أهم المواثيق الدولية التي تتعلق مباشرة بالتعذيب، وتضع قواعد خاصة وتفصيلية لمنع الممارسات التعذيبية، وقد اعتمدتها الجمعية العامة للأمم في: 10 دجمبر1984 ، و أشفعتها ببروتوكول اختياري للاتفاقية(OPCAT) بتاريخ: 2002/12/18 يلزم باتخاذ إجراءات تشريعية وقضائية وإدارية لمنع أعمال التعذيب والقضاء عليها؛ و تنفيذا لهذه للمقتضيات الكونية فقد تم إيجاد آليات دولية لمناهضة التعذيب من بينها: لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب (Cat) تتولى الرقابة على تنفيذ الدول الأطراف في الاتفاقية لالتزاماتها الدولية المفروضة عليها ، و اللجنة المعنية بحقوق الإنسان؛ و مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ؛ و آلية المقرر الخاص.
ثالثا: مستوى القانون الدولي الجنائي، الذي نشأ نتيجة للاستهتار الواضح بحقوق الإنسان وما حدث من فظائع وانتهاكات دولية أدت إلى إقرار مبدأ " المسؤولية الجنائية لرئيس الدولة"، والتنصيص على مبدأ "العقاب على جرائم الحرب"، وقد مَهَّد حظر التعذيب في المستويين الآنفين إلى تشكيل خمس لجان تحقيق دولية في تلك الفظاعات منذ 1919 هي: لجنة الأمم المتحدة لجرائم الحرب؛ لجنة الشرق الأقصى؛ لجنة الخبراء الخاصة بيوغسلافيا عام: 1992 ؛ اللجنة الخاصة برواندا 1994 ، مما أدى إلى تشكُُّّل القضاء الجنائي الدولي مؤقتا في أربع محاكم دولية خاصة هي: المحكمة العسكرية الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب على الساحة الأوروبية لسنة 1945؛ المحكمة العسكرية الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في الشرق الأقصى لعام 1946 ؛ المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة سنة 1993 ؛ المحكمة الجنائية الدولية لرواندا سنة .1994، ولم تلقى جريمة التعذيب في ظل هذا القضاء الجنائي الدولي المؤقت الاهتمام الواضح والعناية اللازمة كجريمة مستقلة بذاتها، وإنما تم تكييف التعذيب بوصفه جزءا من جريمة الحرب أو الجريمة ضد الإنسانية وتراوحت الأحكام في بعض القضايا بالحكم بالسجن لمدة تتراوح بين 6 إلى 10 سنوات ، مما أصبح معه إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة ضرورة حتمية إنسانية بالدرجة الأولى لتجاوز القصور الذي عانت منه تلك المحاكم الدولية الخاصة، وهو ما تم بالفعل اثر اجتماع الأمم المتحدة بروما : 17 يونيو 1998 ، حيث وافقت 120 دولة على ما عرف بميثاق روما واعتبرته قاعدة لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة، وهو الميثاق الذي اعتبر أن مثل هذه الجرائم لا يجوز أن تمر دون عقاب، كما اعتبر هذه الهيئة القضائية الدائمة أهم ضمانة لحقوق الإنسان.
لقد أدركت الأمم أن هذا النضال الذي تم على هذه الصُّعُد وفي هذه المستويات الثلاثة سيظل دون جدوى إن لم يتم تضمينه أولا في القوانين الوطنية للدول التي صادقت على هذه المقتضيات الدولية عن طريق المصادقة والمواءمة، وثانيا عن طريق التزام هذه الدول بإيجاد آلية وطنية لمناهضة التعذيب تطبيقا للمادة الثانية من الاتفاقية التي تنصُّ على انه:" تتخذ كل دولة طرف إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعالة أو أية إجراءات أخري لمنع أعمال التعذيب في أي إقليم يخضع لاختصاصها القضائي".
و واضح تماما أن الغاية الأساسية التي سعت إلى بلوغها هذه الاتفاقية هو تجاوز تجريم التعذيب الخاص المجرم عادة في القوانين الوطنية للدولة الحديثة ومنها موريتانيا التي ينصُّ قانونها الجنائي ذي الرقم:162\1983 بتاريخ:09\07\1983. في المواد:279 و 322 على عقوبة التعذيب، حيث تنص المادة: 279 على انه: "يعاقب باعتباره مرتكبا جريمة اغتيال، كل جانٍ مهما كان وصفه استعمل التعذيب أو ارتكب أعمالا وحشية لارتكاب جنايته"، ومعلوم أن عقوبة المغتال في القانون الجنائي الموريتاني هي الإعدام قصاصا ، مع التنبيه إلى انه من الجرائم التي لا تقبل العفو بحال طبقا للمادة: 280 من القانون الجنائي، فيما تنص المادة: 322 على التعذيب الواقع جراء استخدام السلطة بالأشغال الشاقة المؤبدة، إلا إذا أدى إلى الموت فإن العقوبة تكون عندها الإعدام، ويكاد يكون هذان النصَّان المقتضى الوحيد في تجريم وعقاب التعذيب في القانون الوطني، بيد أن المشرع الوطني انتقل من مستوى التنصيص الخجول في القانون الجنائي، وعمومية التشبث العام بالمبادئ الدولية لحقوق الإنسان في ديباجة الدستور الصادر بتاريخ:20 يوليو 1991 ومنها الاتفاقية الدولية المتعلقة بمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية التي صادقت موريتانيا على الانضمام إليها بموجب القانون رقم:040/99 بتاريخ:20 يوليو1999[1]؛ وصادقت عليها فيما بعد بتاريخ:17/11/2004، وتم نشرها في الجريدة الرسمية سنة 2014 [2] ، إلى مستوى دَسْتَرَةِ تجريم التعذيب و اعتباره جريمة ضد الإنسانية في التعديل الدستوري رقم:015/2012 بتاريخ:20 مارس2012 [3] الذي نص في المادة:13 جديدة منه على انه:" لا يجوز إخضاع أي أحد للاسترقاق أو لأي نوع من أنواع التسخير لكائن بشري أو تعريضه للتعذيب أو المعاملات الأخرى القاسية أو اللانسانية، وتشكل هذه الممارسات جرائم ضد الإنسانية ويعاقبها القانون بهذه الصفة"، وتنفيذا لهذا المقتضى فقد أفرد لها نصَّ خاص هو القانون رقم:011/2013 بتاريخ:23/01/2013 [4] الذي ينص على عدم قابلية هذه الجريمة للتقادم ، وعلى عقوبتها بالجزاء الوارد في المادة:4 من القانون رقم:048/2007 بتاريخ:3/09/2007 المتضمن تجريم العبودية ومعاقبة الممارسة الاستعبادية[5] و هي السجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات وبغرامة حمس مائة ألف أوقية إلى مليون أوقية، و إمعانا بالتشبث بروج تلك الاتفاقية فقد صادقت موريتانيا على البروتوكول الاختياري المرفق بتلك الاتفاقية بموجب القانون رقم:45\2012 بتاريخ:19 يوليو 2012 بعد التوقيع عليه في نيورك بتاريخ: 27سبتمبر 2011،[6] شأنها في ذلك شأن 22 دولة افريقية صادقت على تلك الاتفاقية، و11 دولة افريقية صادقت على هذا البروتوكول إلى الآن.
وبقراءة بسيطة فسنلاحظ أن المشرع الموريتاني يتعامل تشريعيا مع جريمة التعذيب بمحاباة كبيرة:فهو وان رفع مستوى تجريمها بجعلها عقوبة ضد الإنسانية لا تقبل التقادم ورفع مستوى الإطار القانوني للتجريم بالتنصيص على ذلك في التعديل الدستوري الأخير لسنة 2012، إلا انه أضعف مستوى العقاب الذي لا يتجاوز في الحالة العادية عشر سنوات ، وبالتالي يكون المشرع اعتبر هذه الجريمة كأي جريمة من الجرائم التقليدية ينطبق عليها ما ينطبق على باقي الجرائم من حيث الإجراءات، والتحقيق، والمحاكمة، و من عدم إلزامية التحقيق لان التحقيق يكون واجبا في الجرائم المنصوص عليها في المادة:71 من قانون المسطرة الجنائية، و التي تنص على أنه: يكون التحقيق إلزاميا في: الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد؛ أو تلك التي تصل العقوبة فيها السجن ثلاثين (30) سنة؛و الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث" و معلوم أن هذا النوع من القضايا ليس مندرجا في هذا النوع من الجرائم.
مع الإشارة ولفت النظر إلى أن هذه العقوبة (10 سنوات كحد أقصى) من ابسط العقوبات مقارنة مع عقوبات أخرى لا يزال المشرع الموريتاني يتبناها رغم المناهضة الدولية لها مثل عقوبة الإعدام كعقوبة حدِّية أو تعزيرية رادعة في اغلب الجنايات المخلة بالشرف والمنصوص عليها في المواد:12-67-92-287-275-279-410-354-307-308 من القانون الجنائي الموريتاني.
إن هذا التناقض و المعيارية التي يتعامل بها المشرع الوطني تنمُّ عن انعدام الصرامة في تجريم ومعاقبة هذه الجريمة الشنعاء التي تمس كرامة الإنسان وحريته، وإن اعتبره المشرع جريمة ضد الإنسانية، أدى إليه غياب محدد قانوني للتعذيب وهو فراغ تشريعي راجع إلى إهمال المشرع الوطني تعريف التعذيب الذي يعني وفق مدلول تلك المقتضيات الدولية الآنفة وعلى الخصوص المادة الأولى من الاتفاقية "أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديا كان أم عقليا يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص أو من شخص ثالث علي معلومات أو علي اعتراف أو معاقبته علي عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم علي التمييز أيا كان نوعه ، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط من عقوبات قانونية أو اللازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها"، وهو إهمال يؤدي ضرورة ًإلى الإفلات من المتابعة الجنائية الدقيقة لعدم تحديد ماهية التعذيب.
وفي ضوء هذا التعريف و ما تقدم تمكن ملاحظة ما يلي:
أن التنصيص علي درجة جسامة التعذيب متروك للفقه والقضاء ليتوليا تحديد درجة الجسامة التي تكوِّن الركن المادي لهذه الجريمة وبالتمعن فيهما نجد أنهما لم يشترطا درجه معينة من الجسامة في فعل التعذيب بل إنهما ذهبا إلي أن مجرد إيثاق يدي المتهم من الخلف وتعليقه من الأفعال المكوِّنه لجريمة التعذيب.
أن القصد الجنائي الخاص هو المعيار الأكثر أهمية في التمييز بين التعذيب من جهة وبين المعاملة اللانسانية أو القاسية أو المهينة من جهة أخرى، وتعتمد عملية التمييز في الأساس على الظروف المحيطة بالحالة المطروحة، من خلال تطبيق مبدأ التناسب أو الملاءمة عليها فإذا كان العذاب الشديد و الألم الناتج عنه يستهدفان تحقيق أية صورة من صور القصد الخاص المنصوص عليه في المادة الأولى من الاتفاقية كان ذلك الفعل غير مبرر موضوعا في الخانة التي تناسبه.
أنه لا يمكن التذرع بواجب الالتزام بأوامر الرؤساء
حيث يستنتج من نص الاتفاقية أنه لا يجوز التمسك أمام المحاكم الجنائية من قبل مرتكبي التعذيب بأنهم كانوا ينفذون أوامر صدرت لهم من رؤسائهم أو من سلطة عامة للتحلل من المسؤولية الجزائية المترتبة عليهم، إذ تشير إلى عدم جواز التذرع بالأوامر الصادرة عن الرؤساء كمبرر للتعذيب دون تناول للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللانسانية أو المهينة، بالإضافة إلى نسف ما استقر في الاجتهاد القضائي المقارن من عدم اعتبار المأمور شريكا في هذه الجريمة بناء علي أنه كان حاضرا أثناء الحصول علي إعتراف المتهمين بواسطة الضرب..
أنه لا يجوز الأخذ بالتقادم المذكور من المادة:7 من الإجراءات الجنائية في هذا النوع من الجرائم الذي لا يقبل التقادم بحال وهو ما ضمنه المشرع في المادة:الأولى من القانون رقم: رقم:011/2013 بتاريخ:23/01/2013 المتضمن معاقبة جرائم الاسترقاق والتعذيب بوصفها جرائم ضد الإنسانية.
أنه لا بد من تضييق نظام الحصانة الرسمية، و تفسير المقتضيات القانونية العرفية التقليدية الخاصة بالحصانة تفسيرا ضيقا.
أنه إذا كان العفو إجراءً قانونيا يُهدف من خلاله إلى نسيان كل شيء اقترف في الماضي"، فانه لا ينبغي أن يكون مدعاة للإفلات من العقاب على الأفعال المرتكبة بحال.
انه لا بد للحيلولة دون التعذيب، أن تلتزم الدول الأطراف في الاتفاقية بالالتزام بوضع آلية وطنية لمناهضة التعذيب تكون مرجعية أساسية لإجراءات التحقيق التلقائي دون انتظار تقديم الشكاوى من الضحايا كلما ثبت لها وقوع أعمال تندرج في جريمة التعذيب بالاعتماد على شهادات الشهود والاستماع إلى الضحايا وإجراء فحوصات طبية وإجراء تحقيقات سريعة ونزيهة تقوم مع استجواب جميع الأشخاص الذين يتحملون المسؤولية في ارتكاب عمل من أعمال التعذيب من أجل الوصول إلى الحقيقة وعدم حماية الموظف الرسمي في حالة ارتكابه أو علمه أو إعطاء أوامره بارتكاب جريمة التعذيب،و تنص المادة: 17 من البروتوكول الاختياري على أن الدولة تضع مجموعة من المحددات الأساسية للهيئة الوطنية، والتي تخص الاستقلال الوظيفي، الخبرة الملائمة والمعرفة المهنية والموارد المالية.
أنه يقع على كاهل الدولة تحريك الدعوى العمومية أمام القضاء ومتابعة المشتبه فيهم والاستماع إلى الضحايا والشهود وجمع أدلة الإثبات وضمان المحاكمة العادلة من أجل إنصاف الضحايا بشكل يدعم العدالة الاجتماعية ومناهضة الإفلات من العقاب، و لتعويض عادل ومناسب للضحايا وجبر الأضرار المادية والمعنوية وإعادة تأهيل الضحايا من أجل إعادة اندماجهم في المجتمع، ورد الاعتبار إليهم.
ومن أجل تحقيق ما مضى فانه لا بد من وضع ضمانات أساسية لمكافحة التعذيب أثناء التوقيف والحراسة النظرية والتسليم وقضاء المحكومية العقابية بوضع آليات قانونية وقضائية تسمح بالمراقبة وفرض الرقابة اللصيقة على كافة تلك المراحل ومن أهمها:
ضمانة التواصل مع المحامي وحضوره عند الاحتجاز وفي فترة الحراسة(garde à vue) وبدون قيد وهو ما لا يتيحه التشريع الموريتاني الذي قيد حضور واتصال المحامي بالمحتجز بترخيص مكتوب من وكيل الجمهورية و لمدة لا تتجاوز ثلاثين (30) دقيقة، تحت مراقبة ضابط الشرطة القضائية، و في ظروف تكفل سرية المقابلة ،بل استثنى المعتقلين بسبب الجرائم المتعلقة بأمن الدولة وجرائم الإرهاب المادة:58 من قانون الإجراءات الجنائية وهو ما لا يتماشى مع النصوص الدولية بل و يُجَانف السير العام للتشريعات الوطنية الحديثة ومنها قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي الذي ينص في المواد:63 و64 على أنه:" يحق للشخص منذ اللحظة الأولى لاحتجازه أن يطلب التحدث إلى محام" مما يقتضي وبإلحاح تعديل المقتضيات القانونية الوردة في تشريعنا الوطني وعلى الخصوص المواد:57؛58؛59 من قانون المسطرة الجنائية.
الحصول على الضمانات الدبلوماسية خصوصا من الدول التي يمثل فيها التعذيب مشكلة خطيرة ومستمرة، أو حيث يستهدف هذا الانتهاك بوجه خاص الأشخاص الذين يوصفون بالإرهابيين فلا شك أن هذه الوعود تقلل من احتمال تعرض المُسَلَّم للتعذيب عند رجوعه لبلده، على الرغم من النقاش الفقهي الدائر اليوم حول قيمة تلك الضمانات الدبلوماسية ، وحجيتها القانونية التي قد تحول مساءلة الدولة المخِلَّة بها.
الإشراف القضائي على المؤسسات السجنية بواسطة مؤسسة قاضي تطبيق العقوبة، - المنصوص عليه في المقتضيات المعطلة حاليا بالمواد:637؛ 638؛639 من مسطرتنا الجنائية-[7]، و التشبث بتنفيذ القواعد الدولية المتعارف عليها في معاملة السجناء والموقوفين الاحتياطيين المجسَّدة في القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء والتي أوصي باعتمادها مؤتمر الأمم المتحدة الأول لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في جنيف عام 1955 وأقرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي سنة 1957 و هي تكملة قيِّمة للمبادئ المضمنة في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والمكرَّسة في القواعد العامة النموذجية كقواعد طوكيو لعام 1990 الخاصة بالتدابير الغير احتجازية، وقواعد بيجين لعام 1985 النموذجية الخاصة بإدارة شؤون قضاء الأحداث، وقواعد بانكوك لعام 2010 لمعاملة السجينات والتدابير الغير الاحتجازية للمجرمات ، و تفعيل دور النيابة العامة وقضاة التحقيق وغرفة التهام في الزيارة والتفتيش الدائم و الدوري المكرس تشريعا لمخافر الشرطة، وأماكن الاحتجاز والسجون ومؤسسات التأهيل، و تحيين النصوص القديمة التي تنظم المؤسسات العقابية وعلى الخصوص المرسوم رقم:78\98 بتاريخ:26\10\1998 المتضمن تنظيم وتسيير مؤسسات السجون والإصلاح، الذي يلغي المرسوم رقم:152/70 المتضمن للتنظيم الإداري ورقابة المؤسسات السجنية[8]، والمرسوم رقم:153/70 المحدد للنظام الداخلي للمؤسسات العقابية، وتفعيل دور اللجان التي نصَّ عليها المرسوم الانف تطبيقا لمقتضيات المادة: 651 جديدة[9] من قانون المسطرة الجنائية[10]- وهما: [ لجنة الرقابة التي تنظمها المادة:16 من المرسوم الآنف، و اللجنة الوطنية للاصلاح والسجون المادة:18 منه أي مرسوم (078/98)] - المعطلة حاليا، ومراقبة أعمال الضبطية القضائية التي تمارس مهامها على تحت إدارة و إشراف وكيل الجمهورية و المدعي العام لدى محكمة الاستئناف وتحاسب من طرف غرفة الاتهام عند الإخلال بوظائفها طبقا للمادة:13 من قانون الإجراءات الجنائية الموريتاني.
تفعيل دور المأمورين العموميين وكتَّاب الضبط كشهود إثبات لكل ما يقع أمامهم من انتهاكات أو يصرح به خلال جلسات الاستماع التحضيرية والمحاكمات، وضبط الجلسات باعتبارهم الشاهد الأول على ما يدور، تطبيقا لما تنص عليه المادة:412 من قانون الإجراءات الجنائية التي تلزم كاتب الضبط أن يقوم تحت إشراف الرئيس بتقييد سير المرافعات ولاسيما أقوال الشهود وأجوبة المتهم، كما يقوم بالتوقيع على تقرير الجلسة ، فيما يؤشر عليه فقط الرئيس في ظرف ثلاثة أيام التالية لكل جلسة على الأكثر"، وواضح من المادة رغبة المشرع في تكريس ضمانة تقييد الانتهاكات المحتملة التي يصرح بها المتهم أمام المحكمة وغلِّ يد رئاسة المحكمة عن التدخل في التحكم فيما يسجله قلمها، ولا يكفي هذا بل ينبغي تكريس الترتيبات الزجرية الرادعة في حال الإخلال بهذه المقتضيات بالإضافة إلى المخاصمة.
[1] - الجريدة الرسمية عدد957.
[2] - الجريدة الرسمية 1326 بتاريخ:09 دجمبر 2014.
[3] - الجريدة الرسمية 1262 بتاريخ:30 ابريل 2012.
[4] -الجريدة الرسمية 1281 بتاريخ:15 فبراير 2013.
[5] - الجريدة الرسمية1154 بتاريخ:30 أكتوبر 2007.
[6] - الجريدة الرسمية 1326 بتاريخ:09 دجمبر 2014.
[7] - راجع مقالنا إشكالية التنفيذ الجنائي في موريتانيا[غياب قاضي تنفيذ العقوبة يسهم في عرقلة إعادة التأهيل والإصلاح]. مجلة الدرك الوطني العدد:13 لسنة 2013. وبحثنا حول: قاضي تطبيق العقوبة الموريتاني، المنشور بموقع نادي القضاة الموريتانيين على الرابط التالي: http://cmrim.com/2012-04-28-10-13-04/2587-2012-12-03-11-03-19.html
[8] - الجريدة الرسمية عدد 944 بتاريخ :15 فبراير 1999.
[9] - وهي المقتضيات الواردة في المادة:623 من الأمر القانوني رقم:163/83 بتاريخ:9 يوليو 1983 المتضمن لمدونة الإجراءات الجنائية قبل تعديلها بموجب الأمر قانوني رقم:36/2007 بتاريخ:17 ابريل 2007 يتضمن مراجعة الأمر القانوني رقم:163/83 بتاريخ:9 يوليو 1983 المتضمن لمدونة الإجراءات الجنائية حيث تنص:
ARTICLE. 623 – Le juge d’instruction ou le Procureur de la République et le Procureur Général visitent les établissements pénitentiaires.
Les prisons sont en outre placés sous la surveillance des commissions de contrôle des établissements pénitentiaires dont l’organisation et les attributions sont fixées par décret. JO.N°/610- 611.
و هي نفس المقتضيات التي احتفظ بها في التعديل الجديد للمسطرة الجنائية لسنة 2007 والمنصوص عليها في المادة: 651 " يقوم قاضي التحقيق وقاضي تنفيذ العقوبات ووكيل الجمهورية والمدعي العام لدى محكمة الاستئناف بزيارة مؤسسات السجون الواقعة في دائرة اختصاصهم.
وزيادة على ذلك فإن السجون موضوعة تحت مراقبة لجان المراقبة لمؤسسات السجون التي يحدد مرسوم تنظيمها وصلاحياتها".
[10] - الأمر قانوني رقم:36/2007 بتاريخ:17 ابريل 2007 يتضمن مراجعة الأمر القانوني رقم:163/83 بتاريخ:9 يوليو 1983 المتضمن لمدونة الإجراءات الجنائية، والذي يحل محل القانون رقم:141/61 بتاريخ:12 يوليو 1961 المنشئ للإجراءات الجنائية، وكافة تعديلاته] الجريدة الرسمية عدد:1143.