فتوى إلغاء الرق للمرة الثانية غير منطقية وتتنافي مع منطق التدرج :
أعادت الفتوى الأخيرة التي أصدرتها رابطة العلماء الموريتانيين حول العبودية إلى الواجهة من جديد النقاش المحتدم بين النخبة السياسية وقادة الرأي في البلد حول مشكلة يبدو أنه لا نهاية لها.
والظاهر أن هذه الفتوى لم تفلح في شيء سوى أنها أعادتنا إلى المربع الأول لأنها تلغي ضمنيا جميع المجهودات التي قامت بها الدولة ومنظمات المجتمع المدني على مدى أكثر من عقدين من الزمن.
إن فتوى رابطة العلماء الموريتانيين الأخيرة المؤكدة لفتوى إلغاء العبودية الصادرة في عهد الرئيس السابق محمد خونا ولد هيداله سنة 1981 بخصوص إلغاء العبودية في موريتانيا غير منطقية وغير منسجمة مع منطق التدرج علاوة على أنها تتعارض مع الوقائع التاريخية ومع فتاوى مشهورة أصدرها أكبر علماء البلد قديما وحديثا.
وفي تقديرنا أن هناك حاجة ماسة الآن إلى قيام المجلس الأعلى للفتاوى والمظالم بإصدار فتوى تقرر بشكل قطعي ونهائي عدم شرعية الممارسات الاسترقاقية أصلا وحاجة المتأثرين بآثارها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والنفسية إلى العدالة والإنصاف طالما أن الأمر يتعلق بأكبر مظلمة في تاريخ البلد.فهي أولا غير منطقية لأنها مجرد تحصيل حاصل ولم تضف شيئا جديدا حول المسألة ، فهي مجرد تأكيد وإعادة صياغة للفتوى الصادرة في عهد الرئيس السابق محمد خونا ولد هيداله سنة 1981 بخصوص إلغاء العبودية.وإذا كان في مقدورنا القول إن فتوى 81 كانت منطقية وضرورية لأنها صدرت في ظل ممارسات كانت لا تزال منتشرة في البلد وساهمت حينها في تقليص الممارسات الاسترقاقية إلى درجة كبيرة ، فإن فتوى 2015 غير منطقية لأنها تلغي ممارسات لم تعد موجودة . فبعد ما يزيد عن عقدين من الزمن من طرف الدولة ومنظمات المجتمع المدني تعود بنا هذه الفتوى إلى المربع الأول وكأن شيئا لم يحدث وكأن الفقهاء والعلماء في هذا البلد يعيشون خارج التاريخ . صحيح أن العالم الآن يتحدث عن الأشكال المعاصرة للاسترقاق وأننا نحن في هذه البلاد لازلنا نتحدث بشكل أكبر عن آثار الاسترقاق وبشكل أقل عن ممارسات محدودة جدا لا ترقى إلى حجم الظاهرة وهو أمر طبيعي لقرب العهد بالاسترقاق. ومع ذلك عجزت رابطة العلماء عن أن تكون في مستوى الواقع الحالي للبلد : محاربة آثار الاسترقاق والقضاء على الأشكال المعاصرة للعبودية.لهذا كان الأولى أن تتعلق الفتوى بكيفية التعامل من الناحية الشرعية مع الآثار المدمرة للاسترقاق على ضحاياه من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والنفسية والتفكير في درء المفاسد التي تحملها بين طياتها وجلب المصالح التي قد تتضمنها إعادة التوازن إلى المجتمع في تلك النواحي.نحن إذن أمام مظلمة تاريخية كبرى بآثار هدامة على تماسك المجتمع ووحدته، وبالتالي تكون الحاجة ماسة إلى تدخل المجلس الأعلى للفتاوى والمظالم بإصدار فتوى "رسمية" بانعدام وجود أسس شرعية للرق أصلا لانعدام أسبابه في هذا الصقع من العالم الإسلامي.ثانيا – وبالإضافة إلى ذلك نجد أن هذه الفتوى تتعارض مع الوقائع التاريخية ومع منطق التدرج وهو المنهج الذي سنه الشرع في معالجة المسائل الحساسة التي يصعب تغييرها بسرعة مثل شرب الخمر لأنها عادة متأصلة فيها إثم كبير ومنافع للناس ولها صلة بالمكانة الاجتماعية بالإضافة إلى المنافع المادية التي ترتبت عليها في الماضي . لذلك فإنها تقبل المقارنة من هذه الناحية مع مسألة الخمر وهو ما لم يكن غائبا عن بعض حكماء البلد وقادة الرأي فيه.لذلك كانت الخطوة الأولى هي تلك الفتاوى التي أصدرها قبل قيام (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) مثل أحمد باب التمبكتي وغيره ولم تكن ثمة دولة مركزية في إمكانها تطبيق تلك الفتاوى .
ثم تتالت بعد ذلك الخطوات على مسار التدرج : تحريم الممارسة من النواحي القانونية والشرعية نظرا للمفاسد الكبيرة التي تترتب عليها للمجتمع والدولة. وقد تكللت تلك الخطوة بفتوى سنة 81 ثم التشريعات اللاحقة : التجريم سنة 2007 ، دسترة التجريم واعتبار الممارسة جريمة ضد الإنسانية سنة 2011، إنشاء وكالة التضامن لمعالجة المشكلات الاقتصادية والتربوية للملايين من ضحايا الاسترقاق بالإضافة إلى منحها حق التقدم كطرف مدني للدفاع في المحاكم عن ضحايا الاسترقاق ، إنشاء محكمة خاصة بذلك وقد تكلل ذلك بالاتفاق مع الهيئات الدولية على خارطة طريق لتصفية ما بقي من ممارسات وتقديم المعالجات المناسبة لجميع الآثار المتعلقة بالاسترقاق ...
ثم تأتي فجأة هذه الفتوى الجديدة في تنافر عجيب مع الوقائع وتطور التشريعات في البلد !
وفي الحقيقة فإن الخطوة التي كان الجميع ينتظرها وفقا لمنطق التدرج والتطور الطبيعي للمسألة هي تشريع التجريم وجعل الجوانب الشرعية في تناغم مع الجوانب القانونية وليس العكس كما يوحي بذلك منطوق الفتوى. كما كان يتعين أن تتضمن الفتوى الجديدة الطرق الكفيلة بإنصاف الملايين من ضحايا الممارسات الاسترقاقية التي حدثت في الماضي .