في الثمانينات من القرن الماضي، كانت أسرة المختار ولد سيد أحمد، تسكن إحدي بوادي الجنوب الموريتاني، غير بعيد عن المذرذرة، كانت الأسرة تمتلك ما يناهز 500 رأس من الغنم، إضافة إلي قطعة من البقر، و مجموعة من العبيد، و من بينهم عيشة الخادم، التي أتت الأسرة، كتخليص دين، كان يريده المختار في أحد أفراد القبيلة، كانت حينها في 18، تتذكر ذالك اليوم جيدا عندما، غادرت حضن والدتها مرغمة، و هي الآن علي مشارف الخمسين، تزوجت و أنجبت خمسة أطفال و ثلاث بنات، تذكرت اليوم المشؤوم و هي ستختبر شعور والدتها عندما فارغتها، عرفت ذالك، اللحظة التي دخلت فيها علي سيدها مختار، الذي يجلس في خيمته مع أحد التجار، و كان يلبس دراعتين، إحداهما خضراء و الأخري بيضاء، و يضع عمامة سوداء، مظهره يشي بأنه رجل نافذ و ميسور الحال:
- الطفل الذي يلعب مع الخراف، هلا بعته لي ؟
قال التاجر بكل هدوء، و هو الذي قام بشراء و بيع الكثير من العبيد.
لكن المختار لم يكن ينوي بيع أيا من عبيده و خصوصا أبناء عيشة الخادم، التي تحتل مكانة خاصة في قلبه.
إلا أن التاجر ظل يلح علي المختار، من أجل بيع الطفل، كل هذا علي مسامع عيشة الخادم التي تجمدت، عند ﺧﺎلفة الخيمة، هرولت المسكينة الي خيمتها الصغيرة، و التي تقع قرب زريبة الغنم، ثم نادت أطفالها، وهي علي وشك أن تنهار من البكاء الذي يقطع الكبد، ضمتهم إلي صدرها النحيل، و المكسو بلون صنعته أشعة الشمس الحارقة، فالمسكينة لا تلبس ما يستر كل جسمها، ضمتهم و ناحت، كالنائحات زمن الجاهلية، حتي أنها لم تفعل نصف ذالك، عندما قتل زوجها محمود علي يد سيد، بسبب ضرب مبرح، حيث كان عبدا آبقا، فهو قوي البنية و صلب الفؤاد، إلا أنه راح ضحية تلك الشجاعة... تركت عيشة اطفالها في الخيمة، و نبهت عليهم الا يخرجوا منها مهما كل الأمر، ثم جرت إلي خيمة الأسياد، و القت نفسها عند المختار، و هي تبكي بأعلي صوت، و صاحت:
-ناشدتك بإبنتك زينب لا تبع ابني دعه لي سيدي انه روحي و كبدي لا تقتلني ببيعه .
كان التاجر يتبسم بخبث كمن لا قلب له، أو كشرير نفذ للتو مخططه، لم يكن لدي مختار ما يفعله، رغم أن بكاءها أثر فيه جيدا، إلا أنها تأخرت فالصففة أبرمت، و لم يعد هناك مكان للتراجع، لأن رجوعه عن كلمته قد يسبب ذالك الكثير علي سمعته و وضعه، فأطبق ساكتا، نظر التاجر وقال لها:
- لقد بيع ابنك ايتها الخادم البائسة و لماذا تبكين كل هذا البكاء علي طفل حقير مثله و انت لديك آخرون و مصيرهم البيع ...
حولت وجهتها اليه و بدأت تترجاه، لكنه صد عنها، بل وقف و طلب من المختار أن يسلمه الطفل فهو سيغادر...
أخذ التاجر الطفل، بينما اخوته و أخواته يقفون أمام الخيمة، و هم يبكون بكاء تتقطع له الأكباد، و دموعهم تنهمر بغزارة، بينما ظلت عيشة الخادم تلهث تحت جمل التاجر الذي وضع الطفل خلفه، و هو يصيح عيشة عيشة عيشة، كان ذالك في المساء، ظلت البائسة تجري الي ان سقطت ارضا من شدة التعب و الحزن، فيما قبضت رقبة الطفل من شدة البكاء، كانت عيونها مصوبة علي الجمل ختي أختفي عن ناظريها، عادت الي خيمتها مع صلاة المغرب، كان الحزن يخيم علي الخيمة التعيسة .
- هل سيعود اخانا امبارك ؟
سأل اكبرهم و هو يتنهد، أمه المنهكة، و المجروحة، ضمته عليها، فيما نزلت علي رقبته دمعة متقدة، و قالت له:
- سيعود امبارك يا ولدي
في اللحظة التي قالت فيها الجملة، كانت تعلم علم اليقين بأنه لن يعود، وقف امبارك امام الخيمة و ناداها
>عيشة
<عيشة
لا لم تصدق، ربما تخيلت ذالك، ربما جننت، ليتني أقدر علي التصديق، لكن اوسط الأبناء صاح انه امبارك يا عيشة، التقطوه في أحضانهم و قبلوه بكل حرارة.
وقف المختار عند باب الخيمة، و قال آسف يا عيشة، لن أبيعهم مرة أخري، بعد ذالك بأشهر حررها و تزوجها، ارسلت الأطفال إلي المحظرة، و أصبحت سيدة منزل مثلها مثل السيدة الأخري.