لن يتقدم شعبنا مالم يحاول بجد ومثابرة صعود سلم الرقي والتطور ,ليساير الركب، ولن يكون ذلك الا بالانكباب على العلم والمعرفة ،ونبذ الخلافات وتجاوزها ،وتخطي عتبة الأزمنة الغابرة وعادات البدوي ،التي كانت كلها نعرات جهوية وقبلية. فكم من فتنة سالت فيها دماء وأُزهقت فيها أرواح ،وانتُهكت أعراض، من أجل بُركة ماء، أو بئر مُعطلة أو ناقة ضالّة ، مما أدى الى الخَوَر الذي أصاب المجتمعات العربية عموما , ومجتمعنا بصفة خاصة ،ومازال يؤرقها حتى الآن. ولعل من أهمّ ما دفعني الى الرجوع الى هذا الموضوع :هو ما أراه اليوم من صراع بين أقلام مثقفين بارزين ،جعَلَنا نعود بوتيرة الزمن الى الوراء، ونعيش عصرا جاهليا ،فكلٌّ يغنّي على ليلاه...والتي بالطبع ليست موريتانيا الحبيبة. اليوم قرأت مقالا لأحدهم، فخُيل لي انني أمام حضرة عمرو بن كلثوم يتوعد وينشد : أبا هند فلا تعجل علينا #وأنظِرنا نُخَبِّركَ اليقينا. وأجزم أنني لو تابعت المزيد من امثال هؤلاء ،لعشتُ مع فحول العصر الجاهلي كلهم ،بكؤوسهم وخمرتهم ونشوتهم... أين نحن وأين العالم ،هل من المعقول أن نعود لماضي أجدادنا عفا الله عنهم، ووفَّق خَلَفَهم ،لننبش المقابر ,وننهش الأعراض ، في الوقت الذي يلعب فيه أبناؤنا وسط القمامة بأجسادهم التى أنهكها الجوع والمرض،،وغيرنا أطفاله يلعبون في الحدائق الغناء، المزهرة بأجساد وعقول سليمة ،لا تنظر إلا للإمام ،حيث الإكتشافات ،والبناء والتشيد ,فبماذا يُفيدنا التغني بالأمجاد ونحن لا نستطيع شراء لتر بنزين، لزيارة قبورهم وصلة أرحامهم؟!، أنا لا أدعو الى القطيعة الكلية مع الماضي ,ولا يمكنني بأي حال من الأحوال أن أشكك في جهود أسلافنا ـ رحمهم الله ـ وعلومهم الذائعة الصيت ومجدهم وقوة إرادتهم، التى طافوا بها الصحراء وجعلوا منها واحات نخيل ومدن وحضارة ،بهرت الرحالة وكل من زارها، بغزارة علومها ,وكثرة علمائها ,وقوة إيمان أهلها، وتمسكهم بدين الله ،لكن التغني بالأمجاد وذكر مناقبهم في وقت صعد فيه العالم الى الفضاء ،والركون الى الافتخار بهذه الأمجاد وأصحابها بخلفية جهوية مقيتة ,أو عصبية نتنة , أو قبلية رجعية ,يعتبر عائقا في سبيل تقدم الأجيال ولفت الانتباه لجعلها تنشغل بالصراع بذكر أمجاد ماض ,علينا أن نستفيد من جميل عاداته ونبذ قبيحها ،فلاشك أن لكل جواد كبوة ،ولكل زمان وكل دولة رجال , فترفعوا عن هذه التفاهات ،فهذي أرضنا جميعا، وإن جاهد أحد شيوخها بماله وعلمه فلن يقلل ذلك من جهود كثيرين ، ومن كل جهاتها كل حسب موقعه وجهده، فلا يتعصب فصيل ويتباهى آخر لتضيع شنقيط ويظلم شيوخ ومشايخ، مع أن السيف سبق العذل، فالظلم وقع ،فقد تعرض تاريخ هذا البلد لتحريف وتخريف وحذف من جهات عدة. وسأتوقف هنا لأن سرد بعض الوقائع التاريخية والخوض في هذه الأمور بالذات قد لا يخدم الموضوع...فنحن بحاجة الى الرجوع قليلا والمصالحة مع الذات والقطيعة التامة مع هذه النعرات , فموريتانيا لنا جميعا و ليست لعمرو ولا زيد وحده , ومَن يعتقد ذلك لحظة فهو واهمٌ واهم...