الوزير و الاديب محمد أمين يكتب الرحيل !!!

سبت, 2016-12-03 19:12

ان أكثر الأمور التي جرحتني في الحياة هي بدون شك خناجر الغدر التي طعنتني من الخلف ومن أصدقاء ومعارف وناس ليس لي معهم أي عداء ولقد خبرت في تلك الأيام التي أعقبت اعتقالي وخسارة الوظيفة البهيجة وتحويلي إلى كيفة مرارة التنكر وتجرعت طعم الغدر.
لقد كان كل من يتعرض لوشاية سياسية في تلك الأيام شخصا غير مرغوب فيه البتة يتجنبه الناس كثيرا بمجرد تصنيفه في خانة المعارضة أو خانة من تحوم عليه تلك الشبهة.. ولذلك فقد قلت لنفسي العودة إلى كيفة أسلم والمكوث بين الأهل أحسن ..وتركت نواكشوط وبردها ومتبرجاتها الغجريات وتركت نواديها حين أخذ أدباءها يشقون بنتاجهم طريقا ملغوما وشائكا!
راحوا يبدعون بلغة عجيبة وأصبحوا كلهم في ليلة واحدة من رواد المذهب الرمزي ومن دهاقنة الشعر الحر الغامض والعصي على الفهم ..!
أحمدو ولد عبد القادر شاعر الرفض وأكثر الناس جزالة وفحولة خرج على الناس بقصيدة لغز عنوانها السفين ! ولم يفهم أحد منها شيئا وراح النقاد يعطونها تفاسير سياسية عجيبة ويفككون طلاسمها بلغة الإشارة وتقنيات الغمز واللمز وفي نفس المنحى قذف ناجي محمد الإمام بكتابات غريبة مغرقة في الرمزية وكأنها جداول كاهن أو تعاويذ مجنون..!
وطفق المعلقون والنقاد يتنافسون في البحث عن دلالات لرموزهما وأحاجيهما وحاكاهما الجميع حتى غمرت قصائد الشعر الرمزي طرقات نواكشوط المتربة والمفجوعة وأغرقتها بالميثولوجيا اليونانية والبابلية والفرعونية!
لقد أنتج الحكم البوليسي والمرعب هذه المدرسة التي خرجت من حاضنة مريضة وجو محتقن وتسلى الناس بها ردحا من الزمن وأدمنوا الإسقاط والتورية البعيدة والعصية على غير الراسخين في العلم حتى انتشلنا – مشكورا- شاعر شاب من أهل كيفة بقصيدة الغول وهي القصيدة الأكثر صراحة أيامها والأكثر مفهومية في تلك الأزمان الخرساء الحزينة .
فرحنا نرتل "غول" محمد ولد عبدي الذي يخيف صغار الحي إن هم رقدوا وكانت الغول على بساطتها وفوريتها وسذاجتها عصارة بديعة من السخط والخوف والقرف!
على ايقاع تلك القصيدة الخالدة رحت أقطع المفازات نحو كيفة بعد طول فرقة معتملا بمشاعر لا يستطيع أحد ترجمتها سوى ذلك الشاعر الفذ الذي قيل لي لاحقا انه هاجر وضاع منا بين جمال الشارقة.
وتبدّت لي كيفة ومن أول يوم وهي تقطر حزنا وألما فقد تغيرت كثيرا وتبدلت طباع الناس فيها كثيرا كثيرا!
أصبح والدي تاجرا وتغيّر شكله كثيرا وتحولت هامته السوداء الكثيفة إلى مجرد خصلات متنافرة من الشعر الأبيض وأخذ يكثر في التعبد حتى كادت تبتلعه الصلاة ...وأقلع عن التدخين وتوقف مذياعه على نقل البرامج الدينية وأضحت أمي حاجّة مهتمة بالعبادة والعبادة فقط لا شيء في السفر الطويل والغربة أثقل من تغير وشيخوخة الوالدين فكم صعب هو أن تكتشف ان شهرا من الغياب له قيمة عقد كامل من الزمن
واصل والداي حبهما القديم في شكل متصوف رزين وتوقفت طموحاتهما على رؤية أبنائي ومع ذلك لم أستطع أن أتزوج في كيفة وأن أمنحهما تلك السعادة التي يريدان فكل العروض التي وصلتني نقصتها تلك المسحة المدينية التي أدمنت في بغداد وتلك النسمة الطرية التي تسللت لفؤادي في نواكشوط !
ورحت أتملص من ضغوطهما حتى فوضا الأمر للباري عز وجل..
ترامت كيفة وتمددت حتى أصبحت دار المرحوم مالك ولد يحي انجاي التي انتصبت وحيدة لزمن طويل في سفح سقطار الخالي مجرد دار من حي مكتظ!..وأدى نزوح البدو نحو كيفة إلى اعمار تويميرت وسيف الشريف وترامت القديمة حتى اقتربت من المطار وظهرت أحياء جديدة مثل مصيقيلة وبلأمطار وغيرهما كثير جدا!
حصل نفس الشيء مع الناس حيث أصبح التعرف على أهل كيفة الأصليين بين الوافدين الجدد أمرا صعبا ومتعبا!....وحمل الوافدون قيما وثقافة مختلفة وأصبحنا أمام ظاهرة ترييف المدينة بامتياز فصارت الأحياء الجديدة مضارب لقبائل حتى ولو حملت أسماء الأحياء واختفي بالكاد ذلك الرونق الحضري البسيط المعروف في البلدات القديمة 
ومن بين التقليعات الجديدة أصبح من المألوف أن يسألك أحد عن انتسابك لأي قبيلة كجزء من التحية وتبادل الأخبار 
وليس من دواعي الغبطة ولا من مسببات السرور ان الجو العام لموريتانيا سحب ذيوله على كيفة وبشكل واضح وجلي وربما أكثر من أي بلدة أخرى فلقد كان الوالي ساعتها رجل دين ينحدر من أسرة عريقة وقد تلقى تربية تقليدية ملفتة للانتباه وهو شاب فاتح اللون بلحية خفيفة تطوق حنكيه وليس له أي اهتمام بالماديات ولم يتهمه أحد بالرشوة أو بالفساد المالي لكنه كان بحكم تلك التربية العريقة التي لم تصاحبها ثقافة جمهورية يميل إلى الغرف من تاريخ الأمصار والممالك الإسلامية ويعتبر نفسه عاملا لأمير المؤمنين على واحد من الأقاليم زمن الأمويين أو العباسيين لذلك أسجل ومن الحرف الأول من محامده الكثيرة رغبته الوطيدة في تكريم العلماء ومن المآخذ عليه لا تفوتني الإشارة إلى ميله لتخطي القوانين والأعراف الجمهورية الكثيرة!
كان مدير الأمن الجهوي مفوض حنق وظريف في آن وكان شابا يعتمل بمشاعر عروبية ورغبة في حزم الأمور وقد جاء تسرعه وحزمه لينضاف إلى تراث الوالي فشكلا ثنائيا عجيبا وذعر الناس كثيرا من تصرفاتهم الغير مألوفة ومنها انه حين تستعصي عليهما حل مشكلة قبلية أو نزاع عقاري على بئر أو سد تتدخل السلطة وتنزع الملف من أمام القضاء وأحيانا يتم سجن المتنازعين للضغط عليهم دون ذريعة قانونية وقد حاول الكثيرون من الأعيان مفاتحة المقدم هيدالة في شأن الوالي لكن تشبثه به ومعرفته بنزاهته المادية الأكيدة وما لذويه من جاذبية وبركة جعله محصنا من شكايات أهل كيفة ولذا فكثيرا ما تراجع الأعيان ورضخوا وبدءوا تباعا سلسلة التمسح والتذلل لأن لا مفر من والي كيفة إلا إليه.
من الإصلاحات المهمة التي قام بها هذا الثنائي العجيب قبل عودتي لكيفة هو نقل "كراج" أو محطة النقل البري بالمدينة من سوق الجديدة وفرض الناقلين على توقيف عرباتهم في مكان بعيد وراء القديمة وقرب مقبرة جامبور....!
هكذا تراصت السيارات هناك بين الشواهد والأجداث وأنزعج من ذلك أهل القديمة كثيرا فكيف يجوز تقبل هذا الإزعاج المجاني لموتاهم لكن الوالي قال ان قراراته لا رجعة فيها وقد حاول تجار سوق الجديدة العمل على منع نقل المحطة لما تجلبه لسوقهم من فوائد وزبائن ولقوا نفس الصدود البارد الكتيم.
ثم شرع المجلس الإقليمي ببناء سوق وعندما وصلت البنايات الأسقف قرر الوالي تجميد الموضوع وراح بعض المستثمرين يشكون لكن دون جدوى وعادوا من نواكشوط البعيدة كما عاد غيرهم !
شرع مدير الشرطة بانتهاج سياسة جديدة ضد الرذيلة وكثيرا ما تم توقيف شباب وشابات بتهمة الغزل وجريمة الغرام بل وصل الأمر مستويات غير مسبوقة بتوقيف بعض اللطفاء ممن يرافقون الناس ويدّلونهم على الجميلات ويسهلون الزيجات بتهمة القوادة! ..وتم تقديمهم للمحاكمة بعد شهور من الاعتقال التعسفي الطويل دون دليل ولا بينة!
كان في كيفة منذ القدم كما في كل بلدان العالم عينات من الذكور ضعيفة الفحولة وفيهم من لم يخفي ميوله الأنثوية بل من راح يغير اسمه كمحمود الذي يسميه الناس محمودة وعبيدالله المشهور بعبودة ومختار الذي تحول لخيطورة وميمون الذي لا يقبل بغير ميمونة اسما ولقبا وغيرهم كثير وقد درجوا على تلوين دراريعهم الشفافة بألوان مزركشة وبديعة وفيهم من تميز بفنون غريبة كالرقص والغناء باشوار من نوع "يادكجة "...و"انا مرة ماني راجل " و "يا فلجة!"
وقيل ان الوالي أمر "بتعزيرهم" جميعا وتم اعتقالهم إلا المدعو محمودة الذي عاد بسرعة فائقة إلى وضعيته الأصلية شابا مفتول العضلات أجش الصوت تتطاير من عيونه شرارات القتلة فتركوه واقتادوا البقية إلى الوالي وحصل بينه معهم نقاش تناقله الناس لفترة من الزمن بل زادوا فيه وبالغوا أيما مبالغة وحسب ما سمعت أن الوالي سأل خيطورة عن هل يعرف أم الكتاب ؟ وأنه رد على سؤاله ساخرا بأن خيطورة لا يعرف إلا البنات أما الأمهات فلا علاقة له بهن وغضب الوالي أيما غضب وأمر بسجنهم جميعا وتقديمهم للمحاكمة سريعا!
غضبت كيفة من تلك الغلاظات كثيرا وهذا ما يفسر كثرة إقبال الناس على محاكمة المخنثين في ضحى ذلك اليوم وقد أبدع محام شاب جاء من نواكشوط أيما إبداع في الدفاع عن الشباب "الميامين" على حد قوله الى ان قاطعه وكيل الجمهورية عن سبب تسميته لهم بالشباب الميامين وهنا قال له المتهم ميمون نسبة لي أنا ميمونة !... وهذا ما سهل هزيمة المحامي وأحرجه فطلب وكيل الجمهورية الحكم عليهم بالسجن وبالأعمال الشاقة لمدة سنة كاملة !
وضحك الناس من المحاكمة وما تخللها من أجوبة سليطة وأحيانا بذيئة وأقرب ما تكون للاعتراف وقد فجر فيها خيطورة قنبلة مدوية وقت قراءة طلب الحكم فأعلن على الملأ أنه يسامح الوالي لوسامته وراح يتغزل فيه جهارا نهارا الى ان قاطعه عبودة مفضلا عليه المحامي الشاب ونشب بينهما ردح ولطام كاد يعصف بما تبقى من وقار للقضاء ولم يستطع القاضي رغم طرقاته العديدة للطاولة وزمجراته المتتالية من منع الجمهور من الضحك الوبائي فرفع الجلسة منزعجا وأعلن حكمه بسجنهم ثلاثة أشهر مغلقة وبتسرع كمن يريد الخروج من مأزق مؤسف وراح "الميامين" يقولون ان ما أزعجه هو عدم تغزلهم فيه ورفضهم التشبيب بحضرته القبيحة والمؤذية وتحمل سيل شتائمهم الذي لم يتوقف رغم حمحماته ونرفزاته وضحكاته المكتومة والموءودة الى ان اقتادتهم عصبة حائرة من الحرس وهم يولولون ويصرخون ويشتمون!
تميز سديديم كثيرا وتحوّل الى ظاهرة كيفية عجيبة فقد تزوجت سلمى من رجل ميسور وحجبها عن الغناء وسافر بها الى نواكشوط وتزوجت منينة مع بحار وسيم ومفلس وسافر بها الى نواذيبو واعتبر الناس ان زواج الفنانات كان ردة فعل متسرعة ونذير شؤم سببه الوالي المتفقه والمفوض المتسلط الذين حرّما الغناء في ليل كيفة ...واعتبراه فسوقا وكفرانا وكثيرا ما جاء عساكر لمضايقة سلمى ومصادرة أبواقها وتفريق المعجبين بالهراوات فعاقبت أهل كيفة بالزواج والهجرة وقلدتها منينة وهكذا سنحت الفرصة للرفيق سدوم كي يتجلى ويتسلطن ويتولى ملأ الفراغ!
حاول في البداية الغناء بمدح الرسول ثم رفع صوته يمجد اللجنة العسكرية ولم يلق ما يريد ولا ما يترجى من نجاح فراح يصب لعناته على الجميع وفي أسابيع قليلة تحول إلى نجم مهاب يتجنبه الناس ويتوددون له !
لقد أكتشف غرض الهجاء ومنافعه الوفيرة وتفتقت مواهبه في ذلك الاتجاه وأصبح اسمه سدوم الشنيع!
وابتلع طعم الغرور سريعا فتغيرت سحنته ومشيته وأصبح يحادث الناس بفوقية عجيبة وقد دهشت أيما دهشة من تلك التغييرات السريعة التي حصلت خلال غيبتي وفرحت بنجاحات النجم سدوم ورحت أظهر له الود وآيات الإعجاب ككل أهل كيفة مستغربا كيف تحول الحمل الوديع الى أسد هصور؟... حتى سمعته ذات مساء يغني "...ومن لا يظلم الناس يظلم.." فعرفت أسباب عدوانيته المفاجئة وفهمت أن الرفيق سديديم شق طريقه في غابة الحياة وفرحت لذلك كثيرا وفاتحته بتعليلي لما ألم به فضحك وقال : "خليني عنك.. أضرب شخصيتي فالناس !"
لقد تغيرت كيفة وهجر الشيخ عبد المجيد المنبر تماما وراح يركب حمارا يقطع به أزقة البلدة وأطلق العنان لنفسه في الحديث كثيرا وقد تعثرت صحته وفقد قابلية الرؤية في عينه اليسرى وقال أهل كيفة أن جنيا ثار عليه وضرب عينه بجناح غضوب ومتسرع وقال آخرون انه أنهى المقامات السبع وأنه يجول في مرتبة الولي السائح وظل لغزا عصيا وقد أخذ يقضي جل أوقاته خارج البلدة وبطبيعة الحال زرته وقال لي فرحا :
أصبحت دكتورا كوالدك لكنك لم تلبس الخرقة ! لا تضّيع الفرصة مرة أخرى اذا جاءتك !
وحاولت أن أفهم منه معنى كلامه فأمرني بالخروج في نبرة عنيفة وغضبى ..فخرجت!
ساءت علاقات الأستاذ عبدالله بكيفة تلك الأيام وراح هو الآخر يقضي جل أوقاته خارجها وكان في كل مرة يزور فيها البلدة يمر على مكتبي ويتحرى عن أحوالي وينصحني بالحذر من السلطات الحالية وكثيرا ما قال ستفرج بإذن الله قريبا فهؤلاء فاشلون وولد داداه متحضر ووطني..! العسكر ستنتهي قصتهم قريبا سيتقاتلون بينهم وسيعود الحكم للمدنيين وساعتها يمكن إرساء نظام اشتراكي مستنير!
لقد جمّد عبد الله تقريبا نشاطات الحزب بعد ما حصل لفلاحي "الغبرة" من قمع وتنكيل وقد دفعه للتجميد خوفه على الرفاق الشباب من جنون الحكم وبطش شرطته وإحساسه بالمسؤولية تجاههم.
سارت الأيام الرتيبة بي في كيفة وكأنها الملل الحميم والقدر الذي لا مفر منه حتى جاء ذلك اليوم الأغبر الذي قلب حياتي كلها رأسا على عقب وهو يوم الرابع والعشرين ابريل 1984 والرابع والعشرون هو الذكرى السنوية لنداء المقدم هيدالة وهو نداء يحمل أوامر مختلفة فيها ترسيخ روح التطوع وتهذيب الجماهير عبر هياكل هرمية فعالة وضمان تطبيق شرع الله وبناء قصر للشعب في نواكشوط وهو القصر الذي لم يعرف طريقه للوجود وظل مجرد أعمدة اسمنتية خرساء تشهد على عبثية العسكر وسذاجتهم وسطحيتهم !
وقد اختارت لجنة تنصيب هياكل تهذيب الجماهير يوم الرابع والعشرين لتجديد نشاطاتها عبر حملة تحسيس مقيتة في كيفة وهكذا جاء وفد من نواكشوط فيه وزير مخضرم هو نفس حمود ولد الشين الذي أضحى وزيرا للعسكر بعد أن مدح ولد داداه ووصفه بالعبقرية وشتمه بعد سقوطه وخلال محنته وأتهمه بالخيانة والعمالة وكان رئيس الوفد ضابط عسكري برتبة رائد يقود المنطقة العسكرية في النعمة وفي الوفد مدير ظريف في وزارة الأوقاف وله كالوزير حمود معرفة بكيفة وذكريات وأشواق ولوعة..!
راح الوالي والحاكم يهيئون لمهرجان ضخم بنفس الطريقة التي كان حزب الشعب يلزم فيها الناس بالحضور لكن هذه المرة كان المهرجان ضحى ولم تكن هناك سلمى ولا منينة ولا بيت حرب ولا بيت سلام!
وقد أمرني مندوب وزارة التنمية الريفية بالحضور وارتداء بدلة رسمية فأتيت وعليّ بلوزة الطبيب وفوجئت من وجود الجراح الصيني المدعو شينغ لي يجلس بجانبي !
قبل تبادل الخطب شرع الوالي يخطب في أهل كيفة المحتشدين تحت شمس الضحى كالخراف وكان صوته جهوريا ومتمكنا من لغة الضاد ويحيل في كل جملة لآي كتاب الله حتى قلت لنفسي الرجل عالم نحرير وهو كذلك فعلا ...ثم أخذ صوته يميل إلى التهدج والصرامة وهو يفسر مغازي الحدود الشرعية ومنافعها والحكمة الربانية ورائها وضرورة التشهر والتفاخر بها وبالطاعات عموما وختم بشكر الرئيس المؤمن المطبق لشرع الله على أرض الله وكأننا بفضله أصبحنا في مدينة رسول الله بعد ألف سنة ونيف من النكوص والكفران والتولي يوم الزحف !
عندما توقف الوالي عن الكلام لم يحل البوق للضيوف بل أمر المفوض بالمجيء بمن سمحوا لأنفسهم بخرق شرع الله والإفساد في أرضه! وكان في خضم خطبته قد نسى حتى عن الترحيب بضيوفه وتذكرت والي كيفة القديم وضعته وهوانه أمام الوزراء وكبراء نواكشوط وفرحت بقوة شخصية والينا الجديد للحظات قصيرة وعابرة!
وهنا أخرج الجند من باص أسود بلا نوافذ وأقرب ما يكون لزنزانة صغيرة من فولاذ متحرك تحمل ماركة هوندا -وهو باص كثيرا ما استخدمته الشرطة في حملات المداهمة والاعتقال- ثلاث بنات منقبات وراحوا يجلدوهن تباعا بسرعة جلدا خفيفا ورمزيا وظننت أن الأمر سيتوقف على هذا الحد لكن ما أن انتهت مراسم الجلد حتى جاءوا بابراهيم أو ابريهمات الذي يعرفه كل سكان كيفة وهو حرطاني ظريف يبيع الشاي والماء في سوق القديمة وكثيرا ما اتهمه الناس بالسرقات الخفيفة للأحذية في المساجد وأحيانا لمعزة سائبة أو دجاجة أو أشياء أخرى خفيفة وتافهة !
يبدو أن ابريهمات تعرض لشكاية من بدوي بخيل اتهمه بسرقة نعجة ولم ينكر ايريهمات في سذاجته المشهورة القصة ولما ثبتت عليه التهمة بالاعتراف وهو سيد الأدلة حكم قاض متسرع عليه بقطع اليد ولم يكن له من محام ليستأنف القضية ولا من معين فقد هجر عبد المجيد كيفة تقريبا وهجرها الأستاذ عبد الله فانتهت الآجال عليه وهو في السجن دون استئناف ودون ممثل وهو مقل حجة وفقير ومغلوب على أمره وهكذا أتوا به مصفدا لقطع يده في الذكرى الثالثة لنداء الرابع والعشرين ابريل !
كان وجه ابريهمات يشبه في حزنه وسذاجته من لا يدرك ما ينتظره من ويل أو لعله لا يبالي فقد كان مبتسما كعادته وأبله النظرات زائغها وكأنه في عالم آخر حتى أمره الشرطي بالوقوف أمام المنصة التي جلسنا عليها كموظفين وانحبست أنفاسنا وأنفاس المشاهدين أمامنا من أهل كيفة المساكين لهول المفاجئة واحتقنت الوجوه بمشاعر الغضب الفلسفي المرير!
اقترب المترجم من الجراح الصيني وراح يكلمه ويشير إلى يده شارحا له في خليط لغوي عجيب انه يريد منه باسم الوالي قطع يد السارق ولم يفهم الجراح في البداية كلام المترجم فراح المترجم يأمره بالنزول من المنصة واقتاده إلى ابريهمات وأشار الي يده والسكين في يده ففهم الصيني القصة وألقى نظرة منزعجة نحو الوالي وأخرى نحو ابريهمات وراح بدون مقدمات يجهش بالبكاء !
ثم قرر في خضم نوبته الباكية تلك القيام بحركة مسرحية وعجيبة ومبدعة فأنطلق كالسهم بين الناس هاربا وهو يصرخ برطانته الغريبة وصفق الجمهور له وارتفع اللغط وصاح الناس شينغ لي بريس ليي شينغ لي بريس لي ....! وعلت السماء غيمة عابرة ألقت بظلالها على المشهد العجيب فزادته قتامة وحزنا ولمحت فوقنا سربا من غربان البين السوداء واعتملت بداخلي براكين المرارة وفورات الكادحين الأزلية!
احمّر وجه الوالي واكفّهر من فعلة الجراح الصيني الأخرق ! ثم استجمع قواه وزمجر وأشار إلى حامل الميكروفون فاقترب منه فعاد إلى الخطابة وقال في صوت حازم :
- من قتلته الشريعة فلا أحياه الله ثلاث مرات متتالية ...فوجم الناس وأحسوا بأن المصاب جلل وأن السيف سبق العذل!
نزل من المنصة وعاين المتهم وأمر الجند بتنفيذ عملية القطع دون طبيب وكرر أناس في المنصة كلاما جديدا لم يستطيعوا فيه إخفاء نفاقهم للوالي كقول مندوب التنمية الريفية :
لقد صدقت أيدّك الله ...!
وراح مدير دروس كوليج د كيفا يزايد على رئيسي في العمل بصوت مسموع قائلا :
في المدينة المنورة لم يكن هناك جرّاح !
وتعالت التكبيرات وقطعت اليد اليمني لابريهمات أمام الملأ في كرنفال مجنون ومجرم!
طفقت أحاول تضميد مكان القطع بضمادات لم يستطع العساكر شدها وتثبيتها على مكان القطع النازف وهكذا توقف النزيف من رسغه وتطاير الدم على ملابسي في محاولة التضميد تلك وقد كانت المرة الوحيدة التي عالجت فيها إنسانا وأنا طبيب الحيوانات لا البشر لكنها أحكام الضرورات وفقهها الآمر!
أحسست بأن شيئا بداخلي قد قطع وانتابتني مشاعر قرف عجيب نقلتني إلى عوالم بعيدة وأحسست بالغثيان وانسحبت متعذرا بتلوث ملابسي عن بقية المهرجان الذي رفعت فيه اليد المقطوعة على رمح وشاهدها كل الناس وصوّرتها الصحافة الآتية مع الوفد الغريب!
عدت الى بيتنا حزينا ومفجوعا وتذكرت مهرجانات وزراء مختار ولد داداه المسالمة والهادئة! وتساءلت عن كيف تقطع يد فقير ولو مدها لمال غير محرز في بلد جائع وهل هذا موافق لشرع الله الحنيف ؟ وشرع الله أمر بدرء الحدود بالشبهات والتماس الأعذار والصفح!
ثم كيف لم تنتدب له المحكمة محاميا للدفاع عنه وهو قليل حجة؟ وكيف لم يستفد من الاستئناف؟ وكيف رفض مالك النعجة العفو؟ وكيف لم يستطع الوالي إقناعه بالعفو؟
لماذا يفعلون هذ بابريهمات السارق البسيط وكبار اللصوص يعيثون في مقدرات العوام والخواص كل يوم ولم يعاقبهم أحد ؟ وغير ذلك كثير من الأسئلة المحمومة التي أحدثت ضجيجا في داخلي حتى كدت انفجر!
انه ليس من دواعي السرور مشاهدة يد آدمية مبتورة ومعلقة على رؤوس الأشهاد لذا عجبت من حالة الجنون الجماعي التي انتابت كيفة تلك الأيام فكل من تحفظ على هذه الإجراءات أو تململ فهو كافر أو فاسق وحتى أن جل العلماء ابتلعوا ألسنتهم خوفا من الغوغائية الحاكمة المطبقة في تسرع آثم لقوانين لم تفهم كنهها ولا شروطها ولا حيثيات تطبيقها وسافرت بعيدا في حزني وقررت الرحيل في الغد الباكر دون استشارة أحد أيا كان ودون إذن من أي سلطة!
وضعت جواز سفري في شنطة صغيرة ووضعت ملابس افرنجية وموريتانية وشهاداتي وفي الصباح ركبت سيارة لاندروفر قديمة أوصلتني لكنكوصة عند المساء وفي الصباح الثاني بصقت في بحيرتها وركبت السيارة الكبيرة المتوجهة لبلدة خاي في مالي ووصلتها في المساء !
في خاي قمت بتبديل المبلغ الذي كان "تحويشة العمر" بالنسبة لي وكنت انوي استخدامه في تمويل الزواج ان ظهرت من تستطيع الإمساك برسني ولما ألمت بي حالة القرف الوجودي قررت ان أسافر وأن لا أتزوج في موريتانيا وأن لا أزورها بعد ما أصابني وأصابها!
وكانت خاي أقرب مكان خارج البلاد لكيفة لذلك كانت ملاذي الأول من حالة الجنون الوبائي المنتشرة والكاسحة في كل موريتانيا !
خاي مدينة عريقة وتوجد فيها مبان اوروبية قديمة وقد شيدها الفرنسيون منذ قرون عند نقطة التلاقي بين روافد نهر السنغال وهي مكان التقاطع بين قوميات الكاسونكيه والسوانينكيه والعرب والفولان!...وهي أقرب مدن الله لكيفة التي أحببت وعشقت لذا فجل أحياء كيفة تحمل أسماء أحياء خاي... خويندي هو خويندي وقومس هو قومس والقديمة هي القديمة!
في خاي اختلطت الأعراق منذ أسس الفرنسيون قرية ليبرتيه 1 تماما كما فعلوا في كيفة لمحاربة العبودية ولا فرق بين المدينتين سوى وجود نهر يقسم خاي الى ضفتين حين انقسمت كيفة على ضفاف واد غير ذي زرع!
وقد استفادت خاي في عمارتها وتجارتها من مرور سكة الحديد الرابطة بين باماكو وداكار بها وكفل لها ذلك ان تكون عاصمة للولاية الأولى من جمهورية مالي وهي الولاية التي أعطت لتلك الدولة رؤسائها ومؤسسيها وكتابها وفنانيها !
كم كنت سعيدا بوصولي لخاي وطفقت أجول فيها ليومين كاملين وأعيد اكتشاف كيفة وقسماتها واستنشق في صيف خاي الملتهب نسيم الحرية وأنعم ببردها وسلامها ولا زلت أستعيد كلما تذكرت قراري بالخروج عن القرية الظالم أهلها وكلما هممت بأمر مقولة يرددها عواجيز القديمة حين يتوعدون ويهددون ويقولون "خاي القدام" بمعني خاي أمامنا!
وهي عبارة بليغة تستذكر تلك الأيام الخوالي التي كان الناس يتلاقون فيها صدفة في أسواق خاي ويصفّون حساباتهم في أزقتها وشوارعها ...وقد قلت لنفسي خاي القدام ولم أنفذ وعيدي بعد بالشكل الذي أريد وأتمنى!
نمت كثيرا في الفندق الصغير بخاي ورحت أفكر في ما أنا فاعله فليس في تلك المدينة الصغيرة من مقام يليق بي وليس بها ما يرضي غروري ففكرت في التوجه جنوبا الى ساحل العاج وممارسة التجارة!.. وفكرت في العودة للعراق!.. ثم استقر قراري على الذهاب لاوروبا وكان عندي من المال مايكفي لوصولي الى باريس ولم أتردد كثيرا فركبت قطار المائة محطة متوجها لباماكو وأمضيت في تلك الرحلة العجيبة قرابة اليومين وأنا بين "الكوّر" ولغطهم ولغاتهم العصية وكدت أفقد عقلي من الصداع قرب بلدة كيتا وتحملت الضجيج المرهق والمستمر فقطارات مالي أسواق متحركة وعجيبة وخليط رائع من البهارات والأصوات والأحزان!
نزلت بباماكو وهي مدينة سامقة وخصيبة وآسرة وقد استطاعت أن تزاوج بين حمرة أرض السودان وتبتل الإسلام وعذوبته وقتامة الأدغال ووخامتها فخرجت بذلك مدينة مقترة المظهر غنية الروح مليئة بالحنان والرقة ..وأمضيت فيها قرابة الأسبوع وأرسلت من بريدها رسائل لأهلي وأصدقائي أخبرهم فيها بقرفي من بلادهم وأنني فضلت الرحيل على الموت حزنا بين ظهرانيهم !
كتبت فيما كتبت رسالة الاستقالة لوزير الوظيفة العمومية الموريتانية وشحنت فيها له ولرئيسه من آيات التقريع وصادق الهجاء لدويلة الأعراب وعساكر الجاهلية ما جادت به قريحتي من بيان وبلاغة وأحسست براحة نفسية غير مسبوقة!
لم يكن دخول فرنسا في تلك الأيام يتطلب تأشيرة وفي موريتانيا كانت الشرطة تطلب من المسافرين الحصول على تأشيرة خروج وهو أمر تنصلت منه بسفري البري وهكذا ركبت الطائرة الفرنسية اي ت آ المتوجهة لباريس يوم 4 مايو 1984.
وحين وصلت باريس ورأيت أمامي موظفة هجرة شقراء وباسمة سرعان ما ختمت جوازي بآلية وعفوية حمدت الله كثيرا ودخلت مع الداخلين وأحسست بأنني ولدت مرة أخرى وأن آلام المخاض العسير انتهت بلا رجعة وأن صفحة جديدة في حياتي قد بدأت وقررت أن أكتب تلك الصفحة دون تزوير ولا بهرجة وتوكلت على الله وخرجت من مطار شارل ديغول وتوجهت لقطار الأنفاق وفي جيبي مبلغ زهيد هو أربع ورقات من فئة 500 فرنك فرنسي هي كل ما تبقي لي من حطام الدنيا وأنا بعد في أول يوم بعاصمة الجن والملائكة!