محمد على شريف..ونظراته الجنوبية ! /بقلم الوزير السابق محمد أمين

أربعاء, 2016-08-31 00:55

عرفت على الشريف محمد علي في ثمانينيات القرن الماضي فقد كان من جلساء والدي ومن أصدقاءه المقربين، وكثيرا ما لمحته ضمن تلك الشخصيات السياسية التي تتناقش بود وصفاء حول القضايا العامة. انهم شخصيات من نوع حمدي ولدمكناس والدكتور عبد الله ولد اباه والحضرمي ولد خطري عطر الله قبورهم وشملهم برحمته.. وساسة آخرين مثل حابه ولد محمد فال ، الشيخ ولد خطاري ، بمبا ولد سيدي بادي، مصطفى ولد عبيد الرحمن، مالوكيف ولد الحسن.. حفظهم الله وأطال في أعمارهم.
بحكم السن لم أكن اقترب كثيرا من ذلك المجلس إلا لماماً ..فقد كانت أغلب أحاديثهم بالفرنسية وجلها سياسي وتاريخي منصب على حقبة "الزمن الجميل" وكنت بداخلي أقارنهم بباشوات مصر في العهد الملكي الذين عرفتني عليهم مسلسلات شعبية من نوع ليالي الحلمية..!
في أكثر من مرة لفت انتباهي محمد علي فقد كان حين يهم بالحديث بالحسانية يميل بسرعة للفصحى وبشكل أوحى إلى انه تعلم الفصحى قبل الحسانية كما ان اسمه الخالي من زائدة "ولد" بدا لى اقرب إلى المدنية ولمست في حركاته شيئاً من حضارة.. فكان يدخن الجيتان بطريقة لا تخلو من أناقة ولقد حاولت محاكاته في تدخينها لكنني لم استطع تحملها.. ومازلت أستغرب كيف تمكن رجل مؤدب ورقيق الحاشية من تحمل ذلك التبغ الغجري الثقيل الذي كان يبدو مستأنساً به ويطلق عبره زفراته الحرى ؟
ثم حدث أن سلم رجل مسن من عشيرتي أمانة الرب وتوفى عن عمر طويل.. وكان رجلاً عالماً عاش في أعالي غينيا لردح من الزمن.. ولم يكن والدي وأعمامي في نواكشوط فقمت -رغم حداثة سني- بواجب المشاركة في جنازته واستقبال المعزين مع أبناءه ويبدو أن الفقيد أوصى أبناءه بأن يدخل عليه الشريف محمد على وإخوته دون غيرهم !
لم أكن أتوسم في ذلك الجنتلمان الأنيق معرفة الفقه وأحكامه ومازلت أذكر الصلاة على ذلك الفقيد التي حضرتها وكان إمامها الشريف محمد على وبمعيته صنوه الشريف محمد الأمين.. وهكذا يسمونهم في تلك العائلة.. ولقد كان مشهداً جميلاً ومدهشاً فليس هناك أي تناقض بين الأخذ بأساليب الحضارة والعلوم الغربية وممارسة الدين الإسلامي والتفقه في أحكامه !
ثم ازدادت دهشتي حين عرض على صديقي عبد الرحمن ولد اليسع توقيع رسالة موجهة لرئيس الدولة تطالب بالعودة للحياة الدستورية وكنت في العشرين من العمر..وكان اسم ذلك الرجل الأنيق على غرة الرسالة فوقعتها دون تردد. أعتقد أن عدم ترددي ،ناتج في الأساس من رغبتي في محاكاة الباشا محمد علي، وكيف لا وقد وصلت إلى درجة تماهي معه جعلتني أظن أن سجائر الجيتان ترفع من شأن مدخنها كما أسلفت وإلا لما أدمنها الأستاذ الفاضل !! 
الشريف محمد على ولد بودادية نجل رجل صالح وعالم جليل انتبذ خلال الحقبة الاستعمارية إلى غينيا لكنه ككل علماء شنقيط حمل معه الدعوة لله وأصر على تعليم أبناءه القرآن الكريم ومتون الزوايا التى تستلزمها الفتوة في زمانه.. ثم منح المكان بما فيه من مدنية وحداثة أبناء ذلك الرجل الصالح فرصة التعلم في المدارس الكولونيالية والجامعات الحديثة فأتوا ثمرة ناضجة لمنظومتين علميتين تجمعان بين الحداثة والعراقة.
جمعتني بالشريف محمد علي تجربة مهنية قصيرة فقد كان نائباً بالجمعية العمومية وكنت وزيراَ مكلفاً بالعلاقة مع البرلمان والتقينا أكثر من مرة وتمكنت من مجالسته والاستماع له وقد كان في كل مرة مثالاً للرجل الحكيم والمحب لوطنه ولقد تصدى بكفاءة لحملة مقاطعة ومحاصرة موريتانيا بسبب انقلاب 6 آب وأسس ما تمكن تسميته بالديبلوماسية البرلمانية حيث شرح في المحافل العالمية سخافة معاقبة شعب موريتانيا وظلامية تجويعه بحجة غريبة تمس من سيادته كدولة مستقلة.. وكم كنا ساعتها نتلقى دروس الديمقراطية من "هيشاوية" أديس ابابا التي يلتئم فيها طغاة إفريقيا وتماسيحها ..لقد استفدت كثيرا من خبرة ذلك الرجل الهادئ والرزين واعتقد انه قدم أيامها خدمات جليلة للأمة الموريتانية.
في كتابه نظرات من الجنوب تتجلى من أول عتبة وجهة نظر هذا الرجل الحصيف في القطرية ..ومن الطبيعي ان لا يكون كشخص ممزوج عرقياُ وفكرياً مولعاً بالشوفينية.انه عربي من افريقيا أو افريقي ناطق بالعربية وعارف بالإسلام فقها وفكرا وتاريخاً فانشغل في فصوله الأولى في تحديد جذوره لكنه تجنب سكب ذاته فجاء سرده بعيداً عن الشخصنة ومتجنباً استخدام ضمير الأنا فقادنا إلى فهم وجهة نظره حول الإسلام الإفريقي والعروبة المغتربة وكل ذلك في إطار كولنيالي مزركش بلمحة مؤانسة منقطعة النظير.
استخدم مقرراته المدرسية في ثانوية داكار ليناقش معنا فلسفات اليسار والوجودية التي كانت تتفشى في زمانه على خلفية حركة الانعتاق التي بدأت على إيقاع الخمسينيات تسيطر على عقول النخب الافريقية.
ثم في سطور قليلة وماتعة قادنا إلى الضفة الأخرى من بحر الظلمات الى بوسطون حيث كان طالباً في علم الاجتماع واندفع يصف مدارس ذلك العلم الخلدوني الرائع وملاحظاته حول اغلب مدارس السوسيولوجيا.. ولم يهمل امريكا ومجتمعها المتدين والمحافظ لكن حين اقتربت امريكا من الحرب النووية مع الاتحاد السوفيتي فضل الهروع الى ضمير الأنا " في ذلك اليوم كنت في.."وهو استخدام شائق لأحاسيس الذات لكنه عابر ويتصنع صاحبه بين السطور التكفير عنه من أول فقرة، وكأن الحديث بضمير الأنا غير لائق، وكأنه يخال تبرم القارئ من كلام المتقاعدين المؤسس غالبا على أمور وذكريات شخصية فلا يعطي لأحد فرصة للتذمر والتبرم.
يكتشف القارئ مع الشريف محمد على باريس الستينيات...وأجواء الحي اللاتيني التي اعتكف فيها الكاتب لإكمال دراساته العليا.. لكنه دوما لا يرهق القارئ بما هو شخصي بل يجعله يتأمل معه في العام والكلي لا التفصيلي، ولن يعود ضمير الأنا إلا حين فرضته عليه شهادته حول مقتل الزعيم المغربي مهدي بن بركة ! 
بعد غينيا، داكار ، بوسطون وباريس يأتي الدور على موريتانيا الوطن الموعود الذي تنزل عليه الشريف محمد علي ذات صباح متأبطاً خبرة رائعة وكانت موريتانيا في أمس الحاجة لأبنائها ولم يكن محمد علي يحتاجها بالجزم واليقين !
نعم كانت موريتانيا ساعتها بلد سرتيفيكا الدروس الابتدائية بامتياز..وكانت أبواب غينيا مفتوحة أمامه وعلينا هنا أن نذكر أبناء جيلنا المنكوب بالعطالة البنيوية أن جيل محمد علي شريف هو الجيل الأكثر حظاَ في تاريخ هذه القارة حيث تصادف تخرجهم الجامعي مع تأسيس عشرات الدول في لمح البرق وكلها كانت تعوزها المهارات البشرية كما تزامن تأسيس هذه الدول بتأسيس عشرات المنظمات العالمية التي تطلب في إلحاح المزيد والمزيد من المهارات البشرية.
في ذلك الجو كان اختياره الشخصي هو الذهاب إلى موريتانيا فوضع نفسه تحت تصرفها وفضل المشاركة في عملية تأسيس الدولة-الأمة بموريتانيا على رغده الشخصي ومكتسباته الاجتماعية وهو خيار تطلب الكثير من التضحية فالعيش في نواكشوط الستينيات عذاب وعقاب لمن تعود على أدنى حدود الرفاهية ..والتكيف مع عاصمة البدو والفقر أمر عسير لمن اعتاد الحياة في المدن الكبرى !
نزل بنواكشوط وتواصل مع أبناء عمومته ككل الناس.. وقبل العمل في التعليم الثانوي رغم ان شهاداته تخوله التدريس بالجامعات -ولم تكن عندنا جامعات- فتقبل برحابة صدر مكانة أقل من مكانته العلمية وأصبح مدرساً للتربية الإسلامية والأخلاقية والمدنية، وسلوانه في ذلك انه سيحصل على شقة صغيرة يضع فيها أمتعته ليخفف على مضيفيه.. بل ليستقبل معهم ضيوفاً آخرين، ظل الريف يفرضهم تباعاً إلى النزوح نحو تلك المدينة المنتشية بروح الاستقلال المارق بين الرمال الجرداء المطلة على البحر "الأخظر" الفسيح! 
حاول أعيان من قبيلته تنبيه رئيس الجمهورية على حالته وكيفية الاستقبال الفاتر الذي خصته به الأمة بل عاتبوا الرئيس على قلة تمثيلهم في الكيان الوليد فاستقبله واستكتبته رئاسة الجمهورية كملحق ثم أصبح مساعداً لمدير الثقافة وبعد نجاحه قي مهمته عين كاتبا للدولة مكلفاً بالثقافة وبعد ذلك بشهور من الاختبار أصبح الكاتب العام لرئاسة الجمهورية !
طباع الرجل الكتوم والمحب للانزواء وثقافته الغزيرة ولغاته المتعددة ومعرفته بسوسيولوجيا موريتانيا والعالم جعلته رجل الدولة الأقوى في العقد الثاني من حكم الرئيس الراحل.
محمد على شريف لم يكن موظفاً بيروقراطياً بل كان حاجباً للسلطان وشريكاً له ومحاوراً.. لقد كان مستشاره الخاص للأمن القومي ورئيس وزرائه المخفي وصلته بكل المؤسسات.
كل ذلك تم مع اكبر قدر من تجنب الأضواء.. وتجنب القيل والقال وهنا حنكة الرجل الفائقة وهي حنكة لازمته حتى في كتابة مذكراته حيث حاول ان يمثل دور الشاهد أكثر من دور الفاعل وهي حيثية تكاد تنعدم في الساسة هنا.. لكنها هي ماهية رجل الدولة ولهذا خلصت للحكم بأن الرجل لم يكن سياسياً بالمعنى المتداول عندنا بقدر ما كان رجل دولة.
ينقلنا محمد على في ثنايا كتابه إلى مطبخ السياسة الموريتانية.. ويجعلنا نسافر مع الرئيس المتصوف- حقيقةً لا تصاوفاً- بحثاً عن تمويل بئر هنا ومدرسة هناك ويحلل باستفاضة كبريات القضايا الدولية وفحوى السياسة الخارجية الموريتانية ..انه كتاب رائع يشتمل على تضمينات قد لا ينتبه إليها من لم يعرف اريستوقراطية ذلك الزمان الجميل الملتهبة بالوطنية والزاهدة في المال والمبتعدة عن سخافات المجتمعات الاستهلاكية.
ثم بعد مسار طويل ومتعرج يصف لنا كيف كانت نهاية نظام الرئيس مختار.. وكيف تعرف الكاتب العام للرئاسة على زوار الفجر وأقبية المعتقل الذي أخرجه منه الرائد جدو ولد السالك رغم أنوف أعضاء اللجنة العسكرية الحاكمة.. وكيف تحول أهل نواكشوط من مقاطعته ومضايقته إلى التودد له بعد أن شاهدوا شبح سيارة الرائد جدو تقف أمام بيته في فروسية صديق ودود يريد رد كيد الحواسد عن صديقه.
رفض عروض صديقه ورفض عروض العسكر وتشبث بموقفه من الرئيس المطاح به وهنا تجب الإشارة إلى حقيقة سوسيولوجية موريتانية مفادها أن حكام نواكشوط كانوا يريدون استمالته لأسباب جهوية وعشائرية لكن المثقف في شخص محمد علي لم يستسغ الخلط بين العلاقات العشائرية والسياسة وتلك نقطة نادرة في زماننا المشحون بالعصبيات المجنونة القبلية والجهوية والعرقية واللغوية!
في الثلث الأخير من ذلك الكتاب الرائع ينفض الكاتب يديه من السياسة الموريتانية التي أحرقت كل مراكبه-بالفعل والمجاز- منذ أن طالب جهاراً نهاراً بالديمقراطية وما تلقاه جراء ذلك من عناء ومظالم...نفض يديه وتفرغ ليكتب لنا ملاحظاته حول الحياة والأحياء...!
أنصحكم بقراءة هذا الكتاب الماتع الصقيل والجميل.. وأتمنى أن ينبري أحد المثقفين لترجمته للغة الضاد وتلك خدمة كبرى للثقافة الموريتانية ..وفي الختام أتمنى للشريف محمد على موفور الصحة والسعادة وأرجو الله أن يلهمه المصابرة والجلد ليتحفنا دائما بدرره وجواهره التي سنبقى دوماً في أمس الحاجة لها.

نقلا من صفحة الوزير محمد امين