
الآن وبعد مرور ما يربو على ستين عاما من الاستقلال، لاتزال الازمات تراوح مكانها، بل تعمقت أكثر من ذي قبل، في شكل يبعث على القلق! التراشق بين السياسيين في الاسابيع الماضية يحمل معطى جديدا، ينبئ عن خيبة الامل والاشمئزاز المتبادل بين من يفترض فيهم رأب الصدع وإصلاح الثأى! هذا الواقع المتأزم، يبعث على التساؤل عنبوادر الحل في هذا الظرف العصيب الذي انهارت فيه دول، وتدفع أخرى لذات المصير!! لم يكن هذا التساؤل جديدا، إذ حاولت الحكومات المتعاقبة فك لغز الازمة وانتقاء الحلول، لكن النتائج كانت متواضعة، وأقل ـ دائما ـ من المأمول!!
بدأت الازمة في موريتانيا، كما لو كانت سياسية، هذا الامر يبدو صحيحا، بالنظر إلى الظروف التي استقلت فيها موريتانيا، لكنه يبدو أكثر وجاهة من خلال التمشي السياسي المتبع منذ قيام الدولة.
في هذا السياق، رأت سلطة الاستقلال أنَّ عِظَات الديمقراطية التقليدية، لا تتماشى مع واقع البلاد، فقطعت مع التعددية الحزبية والنظام البرلماني، ليبدأ النظام الرئاسي المعزز بنظام الحزب الواحد، لم تكن تلك الخطوة الداداهية سوى مسعى لتأكيد هيبة الدولة، والحد من التشتت الاثني والقبلي الذي تعرفه موريتانيا. ماذا حدث بعد عقدين على تطبيق ذلك النظام؟
كانت المؤسسة العسكرية على الموعد، بعد ما أوشك النظام السياسي والاجتماعي على الانهيار، نتيجة حرب الصحراء، فكانت شعارات الانقاذ،والخلاص، وتهذيب الجماهير، عناوين المرحلة، التي تلت العاشر من يوليو عام 1978، تتالت الانقلابات في إطار إعادة هيكلة مستمرة للجنة العسكرية،انتهت بسيطرة جناح ’’التغيير في إطار الاستمرارية‘‘، لتظهر التعددية، أو ما سمي حينها الانفتاح الديمقراطي.
لم تكن تلك العملية التي بدت بوادرها مع الانتخابات البلدية عام 1987 واستكملت صيرورتها مع الانتخابات البرلمانية عام 1992، سوى آلية لتخفيف الازمات وإدارتها إلى حين؛ لقد بدا واضحا أن دمقرطة النظام السياسي الموريتاني، لم تكن مبنية على إيمان عميق من المجتمع السياسي، بطرفيه السلطة والمعارضة، فلم تكن الاولى لتقبل التنازل عن قمة هرم السلطة تحت أي ظرف، كما لم تبد الثانية إيامناً حقيقيا بالديمقراطية، بدليل غياب الديمقراطية الداخلية، التي بدونها لا تكون للأحزاب صفة مؤسساتية، بل تبقى أحزاب أشخاص لا أكثر. بقت الديمقراطية ’’الطائعية‘‘، كما لو كانت لعبة انتهازية، تبُقِي في السلطة وتُقَرب منها، وتحيي الامل لبلوغها !!
الآنَ وبعد كل هذا الجهد الضائع، قد يلاحظ المرء أن الازمة في موريتانيا، ليست أزمة سياسية في جوهرها، وإنما هي أزمة اجتماعية واقتصادية، تتعلق أساسا، بالفقر والتهميش وضبابية المستقبل؛ فهل يهتم المواطن البسيط بالانتخابات، أو بمن يكون رئيسا أو وزيراً أو مسؤولاً ؟ كلاَّ! لن يكون المواطن معنيا بكل ذلك، مالم يتحرر من الفاقة والفقر والخصاصة، ومالم تُحقق الدولة حدًا أدنى من الرفاه؛ يسمح للناس بالتأمل والتفكير.
فعلاً، لم تهتد الحكومات المتعاقبة إلى أنَّ الانجاز الاهم هو دحر التخلف، وليس الاسراف في شكليات الديمقراطية وتسيس المجتمتع، فكما كان يقول فلاديمير لينين ’’ إنَّ كثرا من الحرية لن يطعم الشعوب الجائعة‘‘!
في هذه اللحظات، وأكثر من أي وقت مضى، يجب أن تنتهج الحكومة سياسة الانجاز الملموس، للحد من الفقر والبطالة، وتحقيق عدالة في توزيع الثروة، ومساعدة من تعرضوا للتهميش في الزمن الماضي، إنها مسئولية ملحة وغير قابلة للتأجيل.
هناك من يعتقد خطأ، أن تأزيم الاوضاع، قد يأتي بالحل، أو يحدث فوضى خلاقة!! هيهات، تجارب التاريخ أثبتت أن الفوضى قد’’ تترك الحليم حيرانا‘‘، وقد لا تبقي مجالا للحل مرة أخرى، إنها تهدم في أشْهُر ما شُيِّد في عقود، لا تؤودنا الامثلة، حتى من أقدم حضارات أمم الارض، ’’العراق العظيم‘‘ بلاد الشام، أرض سبأ، كلها بقيت أثرا بعد عين. في بلد آخر هو روندا، أدت الصدامات العرقية عام 1992 إلى إبادات مروعة؛ يعجز عنها الوصف؛ هذه مجرد أمثلة، يجب أن نجنب بلدنا مصيراً مشابها.
هنا يأتي دور الحلول والحاجات الوطنية؛ نعتقد أن المسؤولية والتسامح والايمان بالعيش المشرك، يمكن أن تشكل قيمًا بديلة لحلحة الأزمات والتخفيف من حدتها وتفاقمها.
إنَّ المسئولية ـ بماهي التزام بتحمل عواقب القرارات ونتائجها ـ تفرض التروي والتعقل في السلوك السياسي؛ إنها تتطلب الحزم، ولكنها تملي ـ أحيانًا ـ المرونة وتلين المواقف؛ في خطوة رائعة تعكس عمق الحنكة السياسية والمسئولية؛ أقدم الملك الراحل الحسن الثاني على تلطيف الاجواء مع معارضته، ليتم تعيين زعيمها التاريخي عبد الرحمن اليوسفي وزيرًا أول عام 1998 . في موقف مشابه، اقتضى منطق التعايش المشترك من رئيس جنوب إفريقيا الاسبق نلسون مانديلا، الصفح والمصالحة مع العنصريين في بلده، فكان شعاره’’ الشعب العظيم لا يخشى المسامحة من أجل السلام.‘‘
إنها مواقف رائعة؛ تعكس التسامح والمسئولية وتؤسس للتعايش المشترك، وهذا ما نحن بحاجة إليه في موريتانيا، فهل يتنادى الجميع إلى المصالحة والتسامح من أجل الوطن؟