
ليس وضع النظام، ولا الواقع الموريتاني بخير، فبالإضافة إلى المشاكل الاقتصادية السيئة للغاية برزت مشكلة الانفلات الأمني بشكل غير مسبوق، فكثرت عمليات القتل والسطو والاغتصاب وتطورت نوعيتها وحجم الخسائر فيها، وطبعا لا جديد إيجابيا على مستوى المشكل الاجتماعي عموما وخاصة ملفات العبودية ومخلفاتها والبطالة وارتفاع الاسعار، فالفقر يزداد والجوع ينتشر والأمية تتشعب والتعليم ينهار، بينما تتقلب ثلة قليلة من الدائرة الضيقة للحاكمين في مبالغ مالية ضخمة جدا مصدرها صفقات مشبوهة وسرقات وتحايل ورشاوى واستغلال نفوذ وغيرها من الكسب غير الشرعي ..
ـ لا يُعرَف اليوم مَن الحاكمون الحقيقيون لموريتانيا بسبب نفوذ كثيرين لا يحملون أي صفة رسمية مطلقا، وإنما قرابات ومراكز قبلية جعلتهم دون سابق إنذار في أعلى مراكز القرار، وقد أدى هذا إلى قتل المؤسسات بشكل كبير، كما ضمرت السلطة المفترضة لكثيرين في مراكز سلطوية قوية نظريا، فنرى الوزير لا يمكن أن يصدر قرارا أو مذكرة عمل دون الكثير من الاستجداء وانتظار الكثير من الوقت والأذون، بينما يسطو عليه موظف صغير لديه، أو سمسار من خارج الدائرة الرسمية، أو سيدة ذات صلات بنافذين، فتقوم بما تريد في قطاعه دون انتظار أو تساؤل أو عذر .. لقد أصبح النظام بلا نظام، والمؤسسات بلا مؤسسية.
ـ من أين يأتي العجز أو التقصير للنظام يا ترى؟ لماذا ضيع عزيز الكثير من الفرص لإجماع وطني قد يتجاوز من خلاله الكثير من المشاكل؟ ما سر الانفلات الامني الذي تجاوز عتبة لم يصلها من قبل بما فيها فرار متهم بمحاولة قتل عزيز نفسه، وإطلاق النار على قوة أمنية لم يعتقل فاعلوه الخ؟ لمصحلة من خلق أزمات سياسية جديدة؟ ما أهمية التقصير في المشكل الاجتماعي خاصة العبودية ومخلفاتها؟ صحيح أن عزيز بعد إصابته بـ"الرصاصة" لم يعد بتلك القوة السلطوية والأداء الحيوي ـ بغض النظر عن الرضى عنه أو معارضته ـ وربما لم يعد نفسيا هو هو .. ومن هنا من الطبيعي أن تظهر بصمات من يحيطون به بشكل أكبر، سواء كانوا في مواقع رسمية أو غير رسمية، وهؤلاء مشارب شتى: فمنهم الباحث عن المكاسب المالية بولع قبل انهيار النظام أو انصراف عزيز أو صرفه من الحكم، ومنهم الطامح الساعي إلى خلق البديل أو إلى تقديم نفسه بديلا بصفة أو بأخرى، ومنهم المغالي في ولائه المهرول إلى إرضاء شخص الرئيس أكثر من سعيه إلى مصلحة البلد بما فيها مصحلة النظام نفسه، والطريف أن الأصناف جميعها قادرة تمام القدرة على استبدال جلودها للحاق بأول قادم إلى القصر بعد عزيز، حتى ولو جاء على ظهر دبابة وقاد سلفه إلى السجن أو المنفى، وهو درس تم تكراره بدرجة لم يعد أي بليد في هذه الأرض لا يحفظه!
ـ ليست مشكلة النظام اليوم المعارضة مجتمعة، أحرى وهي مشتتة بين محاور ومساعد محاور ومتمرد مستهدف: فكتلة مسعود وبيجل وعبد السلام قدمت للنظام ما تستطيع قبل فترة، وإلى الآن تنتظر النتيجة العامة والخاصة، تغاضب مرة وترضى أخرى، وحمائم الحوار (تواصل وتقدم) لا يملكون بمفردهم ثقلا كبيرا مغريا للنظام إلى درجة يستجيب لما يطلبون منه، خاصة مع عدم لحاقهم بالكتلة السابقة، وانبتاتهم من الحليف التليد (التكتل)، ضف إلى ذلك الأزمة الجديدة مع تواصل على خلفية غلق عشرات المحاظر في الشرق الموريتاني المعروف بولائه الجنوني للمخزن، وهي أزمة لا يمكن فهمها بعيدا عن صناعة الأزمات من طرف جهات ما في النظام للاستفادة منها داخليا أو استنادا إلى عوامل خارجية ذات مردودية مادية، وفي كلتا الحالتين يتم ادخال عزيز ـ أو يدخل ـ في أزمة إضافية هو والبلد في غنى عنها. أما التكتل فيبدو أن النظام دخل معه نهائيات المعركة بعد انسحاب شخصيات قيادية فيه على مراحل، بعضها استقبله النظام بشكل مباشر في القصر، وبعضها استقبله عن طريق جسور غير مباشرة هناك في وزارة الداخلية.
باختصار يمكن أن يقال أن النظام اليوم ضعيف جدا بل مضطرب، وأن المعارضة مشتتة أيضا وضعيفة، وأن المجتمع هش جدا، والأمن شبه مفقود خاصة في العاصمة، وأن هذا التيه الذي نعيش ليس إلا بداية لتطورات لاحقة، قد توضح الأيام أنها من صناعة أذرع من النظام تدبر أمرا ما، ومن المؤكد أن الشعب الموريتاني يحتاج كل شيء باستثناء الأزمات الاضافية والقلاقل، أن المنجاة الوحيدة من كل ذلك هي تحقيق أقل عتبة من العدل في توزيع الثروات والامتيازات، وعدم مضايقة الناس في حرياتهم، والعمل على تحقيق أكبر قدر من الاجماع الوطني على المصلحة الوطنية لا على مصلحة شخص واحد حاكم، أو جهة سياسية معينة.
محمد الامين ولد سيدي مولود