لا شك أن أحداثا ضخمة في تاريخ البشرية ما كان لها أن تتحقق وتحدث لولا إجماع كلمة الجماهير ، فعند ما تبرز على السطح قضية أو أكثر يحتدم فيها الجدل والنقاش وتمس مصالح الأغلبية أو قيمها الأساسية وتؤثر على عدد كبير من المواطنين فتصبح موضوعا مطروحا للمناقشة الحرة والمناظرة ، ويدور الجدل حولها إلى أن يصل الناس إلى إجماع و تتطابق وجهات نظر عدد كبير منهم حول مسائل عامة ، ويتم الاتفاق على السبل التي يمكن اتباعها لتحقيق هذه الأهداف ، عند ذلك يتبلور الرأي العام ، بعد أن تجاوز مراحله الأولى التي تتسم بالغموض وعدم وضوح الرؤية .
وقد تعددت التعريفات وتنوعت لدى الباحثين والدارسين لظاهرة الرأي العام ، إلا أننا سنكتفي هنا بتعريف الدكتور إسماعيل علي مسعد ، الذي يقول: " إن الرأي العام هو حصيلة أفكار ومعتقدات ومواقف الأفراد والجماعات إزاء شأن من شؤون تمس النسق الاجتماعي ، كأفراد أومنظمات ونظم ، والتي يمكن أن يؤثر في تشكيلها من خلال عمليات الاتصال التي قد تؤثر نسبيا أو كليا في مجريات أمورالجماعة الإنسانية على النطاق المحلي أو الدولي " .
ومع أن الرأى العام كان قائما ـ بصورة أو أخرى - على مر العصور، لأنه مرتبط بالمجتمع الإنسانى أينما وجد ، فقد عرفت مدن اليونان القديمة الرأى العام ،واختبرت نفوذه وسطوته قرونا عديدة ، وكان الرأى العام هو المسيطر المطلق على كل أوجه النشاط فى تلك المدن ، ومع ذلك فقد شاع استخدام تعبير الرأى العامبمدلوله الحديث فى خضم الثورة الفرنسية ، التي ليست سوى لونا من ألوان التعبير عن الرأى العام .
ومع أن الكاتب الإنجليزي " باجوت " في القرن التاسع عشر ، ذكربأن أقدم وسائل التأثيرعلى الرأي العام ، تتمثل في الأحاديث التي يتبادلها الأصدقاء والمعارف ، في عدة أماكن ، مثل الشوارع ، والمنازل ، والأماكن العامة ، فقد أصبح هذا التأثير في العصر الحديث منوطا في كثير من الاحيان بقادة الرأي في جميع الدول ، بما في ذلك بلادنا موريتانيا ، التي ينبغي أن يتولى قيادة الرأي العام فيها العلماء والسياسيون والأدباء والكتاب والصحفيون والمثقفون وغيرهم ، بأعتبار أن لديهم خبرة ودراية كبيرة موثوق بها بالمسائل والقضايا والمطالب والآمال والأحاسيس ، التي تشغل الرأي العام ، بما يمكنهم من تبني الأفكار الجديدة التي تخدم البلاد .
كما أن هؤلاء القادة يبذلون عادة جهدا كبيرا في دراسة المواقف والمعلومات ، حتى يكونوا رأيا بشأنها ، وهوما يجعلهم قادرين على التأثير في الرأي العام ، ومع ذلك فإن لأوضاعنا الاقتصادية والأجتماعة مثل دخل الفرد ومستوى معيشته وثقافته ، تاثير بالغ الأثرعلى اَراء الأفراد وأفكارهم واتجاهاتهم ، لذلك أصبح للرأىالعام دوركبير فى مجتمعنا الحديث ، ولم يعد فى استطاعة أى حكومة اليوم الاستمرار فى الحكم دون الحصول على الحد الأدنى من موافقة الجماهير .
ومن هنا فمن الضروري أن نؤكد في هذا المقام على بعض القضايا التي تشغل بال الرأي العام في بلادنا ، والتي يأتي على رأسها في الوقت الحاضر:
ـ تخفيض أسعار المحروقات ، وهي القضية التي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال المشاركة الفعالة في الحملات الضاغطة على الحكومة الموريتانية ، لمراجعة أسعارالمواد الضرورية والأساسية ، وخاصة المحروقات ، مع متابعة مكثفة للكتابات والتدوينات والاحتجاجات السلمية ، المطالبة بجدية بخفض اسعار الوقود ، بشكل متناسب مع هبوط البترول في الأسواق الدولية ، حتى ولو أكد وزير الاتصال " أن الحكومة الموريتانية ، لا تعتزم إجراء أي تخفيض في أسعار المحروقات في الظروف الحالية " ، رغم أن الدول المجاورة لموريتانيا ، قد خفضت سعر الوقود تبعا لهبوط أسعاره على المستوى العالمي .
ومع ذلك فإن على الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ، أن تحذوا حذو حزب التحالف الشعبي التقدمي المعارض ، الذي أصدر بيانا دان فيه بقوة " رفع الأسعار المفروضة على المواد الغذائية ذات الضرورة الأساسية " ، واعتبرالحزب في هذا البيان أن اصرارالحكومة على " إبقاء أسعار المحروقات باهظة ، رغم ما يعرفه سعر البترول اليوم من انخفاض غير مسبوق ، ليعبر عن رغبة مستمرة لدى النظام القائم في ابتزاز المواطنين ، وجمع المليارات على حساب دافعي الضرائب ، ومحاولة للتستر على الانخفاض المؤكد لقيمة الأوقية والتكتم عليه ، رغم ما في ذلك من ظلم وإجحاف ، لاسيما أن حاجيات الدولة الاستهلاكية مرتبطة ارتباطا عضويا باستيراد المواد الغذائية " ، كما طالب حزب التحالف في هذا البيان " بزيادة رواتب العمال والمتقاعدين ، للتخفيف عنهم من وطأة غلاء الأسعار" .
كذلك فإن المهرجان الشعبي الذي نظمه هذا المساء في دار النعيم ، المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة ، تحت شعار: " الشعب يعاني الفقر والإهمال وارتفاع الأسعار" ، فقد أكد بجلاء هو الآخر ، أن الرأي العام منشغل هذه الأيام بقضية ارتفاع الأسعار، وخاصة أسعار المحروقات ، حيث وصف رئيس القطب السياسي في المنتدى محفوظ ولد بتاح ، الأوضاع المعيشية في موريتانيا بالمزرية ، واعتبر أن "امتناع السلطة عن خفض سعر البنزين قرار جائر يتطلب تعبيرا صريحا من الشعب الموريتاني عن رفضه ، والتصدي له بكل الوسائل السلمية المتاحة " .
ـ أما في قضية أخرى قديمة جديدة ذات بعد حضاري ، فإن على الكتاب والمثقفين وقادة الرأي عموما ، أن لا يسأموا من المطالبة بترسيم اللغة العربية ، وجعلها هي لغة الإدارة والعمل ، بدلا من اللغة الفرنسية ، وإلا سيبقى جل المواطنين الموريتانيين مهمشين في وطنهم ، ويتأكد استبعاد علماء المحاضر من وظائف الدولة ، وفي نفس الوقت سينظر إليهم بازدراء من طرف الإدارة والقائمين عليها ، مع أن العمل باللغة العربية في الإدارة هو في حد ذاته ، مجرد إقرار للمادة 6 من الدستور، التي تنص على أن اللغة الرسمية هي العربية ، واللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسوننكية والولفية .
ـ وبما أن مادة التربية الاسلامية في بلادنا تعاني من التهميش والتبخيس الذي يطال موقعها ضمن المنظومة التربوية مما يجعلها معطلة الأهداف والمحتوى ، لكونها محدودة بساعات قليلة في الاسبوع ، ولازال معاملها صفرا في سنة الباكالوريا حتى الآن ، فإن على قادة الرأي العام في بلادنا أن يواصلوا دفاعهم عن هذه المادة التي تحتل مكانة خاصة في العملية التربوية ، كونها الوسيلة العملية الوحيدة في بناء وتكوين أفراد المجتمع، ،وذلك من خلال ما تتضمنه من أبعاد روحية وأخلاقية ، تجعل المتعلم يعيش في ظلها حياة ملؤها السعادة والاطمئنان ، و يشعر بالراحة النفسية والاجتماعية ، لأن الإسلام دين يقوم على العقيدة الراسخة والعبادة الخالصة لله الواحد الأحد ، وهو دين يدعو الى التفكير والنظر ، ويحث على الأخلاق الكريمة والعلم والعمل .