النصف الأوّل من رواية الموريتاني محمد ولد أمين، يدور حول الحياة البطولية الحافلة لمنينة بلانشيه، البدوية التي تهرب إلى نواكشوط بعد اعتقال عائلتها من قبل الفرنسيين، منتدبي موريتانيا أو محتلّيها، حيث تظهر عن فتنة وحكمة معا، فتتزوّج من حاكم نواكشوط الفرنسي وتصبح سيدّة معروفة وامرأة أعمال وذلك في الفترة التي سبقت وقوع الحرب العالمية الثانية ثمّ في إبّان هذه الحرب.
النصف الثاني من الرواية تُرك لجوزيف بلانشيه، ابنها الملتبس الهويّة بين أن يكون فرنسيا أو موريتانيا، فقد ولد من غير أبيه الشرعي، العقيم الذي كلّف واحدا من أتباعه الموريتانيين ليقوم بالمهمّة التي يعجز هو عن القيام بها. هنا، مع جوزيف بلانشيه، ابن منينة، نحن في الزمن الأقرب، حيث تثبت الرواية أحد تواريخ شهر يونيو لعام 2012 مذيّلا أسفل الدعوى التي تقدّم بها محامي جوزيف إلى القضاء الموريتاني. أما موضوع الدعوى فطلب استرداد جوزيف لبعض إرثه من والدته، والذي لا يقلّ عن مقرّ رئاسة الجمهورية نفسه ومباني الشركة الوطنية للمياه ووزارة المالية وعقارات أخرى توزّعت حول المقرّات والأبنية.
وما كانت الرواية لترضى بأقلّ من الوعد باستعادة ذلك الإرث لتختتم به صفحاتها المئتين. ففي الصفحات التي سبقت لم تخط خطوة بأحداثها، أو بأوصافها، أو برسم شخصيّاتها، إلا وشاءت أن تكون ممتلئة غاصّة باستثنائيته وفجائيّته وخروجه عن العاديّ. فوالد منينة، الذي تبدأ الرواية بوصف شكله، فاقد لإحدى عينيه وممزّق الوجه إلى حدّ حجبه بكيس سميك ليس فيه إلا ثقب واحد، وذلك على إثر صراع جرى بينه وبين أسد. أما حياة منينة فكلّها مفاجآت وبطولات غير متوقّعة لتغذية الرواية بمصل مستمرّ. من ذلك مثلا كشفها لنفسها عارية أمام رجلين راح أحدهما، أو راحا كلاهما، يمجّدان الخالق على بديع صنعه. ولنضف إلى ذلك التجربة العلاجية الروحية التي عرّض ابنها جوزيف نفسه لها، هذه التجربة التي تنتقل بالرواية من الزمن الصحراوي إلى التخييل ما بعد الحداثي الذي شاهدناه في أفلام كثيرة بينها "أفاتار" لجيمس كاميرون. فمن أجل أن "يتصل" جوزيف الابن بحياة منينة يخضع لتجربة استحضار تذكّري رائدة يغيب فيها عن وعيه بحاضره، ويرجع مراقبا حياة أمّه، عن قرب لصيق، مستحضراً بالتفاصيل ما لم يسبق له أن رآه وعرفه.
هكذا لا يتوقّف محمد ولد أمين عن تنشيط روايته ورفدها بالكثير مما تميّزت، بجانب واحد منه، روايات عملت على فتح أبواب خيال لم تكن مشرعة. وقد سعى ولد أمين إلى ربط تلك الوقائع شبه الخرافية بتاريخ واقعي غالباً لموريتانيا، خصوصاً في سنوات الإحتلال الفرنسي وعلاقة مندوبي فرنسا برجال القبائل وتنقلاتهم بين أنحاء ذلك البلد. وهذا سيعود الكاتب إليه في النصف الثاني من روايته، أقصد الجزء الثاني من هذه الرواية طالما أنّ الجزءين، أو الزمنين، متداخلان مختلطان في سياقها السردي.
في مقابل عالم موريتانيا في الجزء الأوّل، نقرأ في الجزء الثاني وصفا وتعدادا لشوارع بروكسل ومقاهيها وأمكنتها الأخرى، حيث انتقل جوزيف بلانشيه لإخضاع نفسه لتجربة الدكتور برنار الروحية. في أحيان لا نجد مسوّغاً كافياً لتعداد تلك الأمكنة وذكر أسمائها. يخطر لنا، حين نعلم أنّ الكاتب سبق له أن أقام في بلجيكا لإتمام دراساته، أنّه أدخل إلى روايته نسائم من هوى تذكّره الشخصي، وذلك في رواية يغلب عليها بناء عالم خارجي قليل الصلة الشخصية والنفسية بكاتبه. مرّة ثانية يعود الكاتب للإستفادة من تجاربه، ومن كونه محامياً، فينهي الرواية بصفحات بطلّها هذه المرّة محام (الأستاذ ولد بوياتو) لا يتوقّف عن إعلان سخريته من القضاء الموريتاني ورجاله.
*"منينة بلانشيه" رواية محمد ولد أمين الصادرة عن دار الساقي في 206 صفحات، 2014. -